.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

وخلق الإنسان ضعيفا (2)

5057

العلم والدعوة والجهاد, فقه

التربية والتزكية, المرضى والطب

سامي بن عبد العزيز الماجد

الرياض

جامع الرائد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ضعف الإنسان البشري. 2- من صور الضعف البشري. 3- حال الإنسان في البأساء والضراء مقرونًا بحاله في الرخاء والسرّاء. 4- المرض سبب للهداية والتوبة.

الخطبة الأولى

أيها المتحابون بجلال الله، ويمضي بنا الحديث عن إحدى طِباعنا البشرية، عن الضعف الذي هو جُزءٌ من تكويننا، فلا ينفكّ عنّا إلا وقد أخذ معه قُوانا كلَّها، بل وأرواحنا معه، فمحالٌ أن يفارقنا إلا إذا فارقتنا الأرواح وودَّعنا الحياة.

خُلقنا ضِعافًا، وسنموت كما خُلقنا ضعافًا؛ لأن نفوسَنا طُبعتْ على الضعف، وللضعف صوره المختلفة، تتقاسمُها الأجسادُ والنفوسُ، فالأجسادُ تعترضُها الأمراض، فإن أخطأتها لم يُخطئها ضَعفُ الهَرَم، يردها إلى أرذلِ العمر، والنفوس تعتريها غفلةٌ أو فتورٌ أو يمسُّها طائف من الشيطان يغويها ويسوِّل لها، ويتذكر الإنسان صورَ الضعف هذه فيدرك لحظتها كيف أنه مُطوَّقٌ بالضعف من كل جانب، ويرى كيف تتجلّى عظمة الخالق وقوتُه وغناهُ أمام عجزِه وضعفه وحاجته وفقرِه.

ما أحرى تذكُّر الضعفِ أن يباعد بيننا وبين الكِبر درجات بعد درجات. وما أجدرَ أن يذكِّرَنا ضعفُنا بقوة الله التي لا تغالبها قوة ولا يخالطها ضعف، فلَهُ سبحانه القوةُ الغالبةُ والقدرةُ النافذة والإعانة المسددّة.

ولبعض الناس بأس، ولبعضهم قوة، غير أنها ليست قوةً مطلَقَةً، بل هي في الحقيقة أدنى الضعف، فمهما بسط له من الجسم أو العلم أو المال أو الجاه، ومهما أوتي من الحيلة فسيظل كما كان، ذاك العبدَ الضعيفَ إلا بقوة الله، الفقير إلا إلى الله، وسيظل ضعيفًا مهما أوتي من القوة؛ لأنه لا يملك لها ردًا لو أذهبها الله، فما به من قوة فمن الله، والقوة من أنْعُمِ الله، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:46].

وكفى به ضعفًا أن لا يأمن الإنسانُ ذهابَ قوته، ولا يملك ردَّها بعد زوالِها، كما لا يملك كشف الضرِّ عنه إذا مسه، ولا تحويله إلى غيره، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].

وهذه وقفة مع إحدى صور الضعف في الإنسان، مع صورةٍ هي من أظهر ما يُرى الإنسانُ فيها ضعيفًا، هي الحالة التي لا يواري ولا يداري أن يبدوَ فيها ضعيفًا، بل هي الحالة التي يقصد أن يُظهرَ فيها ضعفه وافتقارَه وحاجتَه، بعد أن كان يواريها بكِبرِه وغروره، ويتنكّرُها بما كان يُظهر من قوته وقدرته.

إنها حالة المرض، عارضٌ يُنهِك البدنَ ويضعِفُه؛ فتضعفُ معه النفس، ويذهب عنها كبرياؤها، وينطفئ طغيانُها، وتتهاوى أمامه أوتادُ القوة المزعومة، فتعودُ النفسُ سيرتَها الأولى، إلى فطرتها التي تنكّرتْها بكبريائها وطغيانِها، ووارتْها بأوهام القوة؛ لتدِبَ فيها أعراضُ الضعف من جديد، تلك الأعراضُ الطبيعيةُ التي أرادتْ نفسُه يوم كانت في بحبوحة العافية والرخاء أن تتنكَّرها وتتلبسَ بغير لَبوسها؛ فكشف المرض المغطّى، وأظهر الطبيعة التي لا يجوز للنفس أن تتكلفَ غيرَها. لقد أظهر المرضُ ضعفها وحاجتها وافتقارها إلى حول مولاها وقوته ولطفه.

حالة المرض ضَعْفٌ يسرِب إلى النفس، فينتزع منها كبرياءَها، وينزع عنها مغالطتها للحق والحقيقة، تلك المغالطة التي كانت تمارسها والبدنُ موفور الصحة والقوة؛ فتُظهِر الشيء وقد سلّمتْ بضده، وتجحدُ الحق وقد استيقنته ظلمًا وعلوًا، فينقلب جحودُها استيقانًا وإدبارُها إقبالاً.

المرض ضعف يُنهِكُ البدن حتى يتركه هزيلاً، ولكنه لبعض القلوب قوةٌ يَصقُلها بالإيمان، ويردُّها إلى الفطرة ويوقظُها من الغفلة، وينفي عنها خبَثَ الشبهات والشهوات، ويزيل من فوقها رُكامَ التيه بعد أن ران عليها طويلاً.

ومع المرض تسارع النفسُ إلى التوبة سراعًا لا يخطئ بابها، ذاك البابُ المفتوحُ الذي ظلت عنه كثيرًا في سِنيِّ العافية، فها هي توفض إليه سِراعًا بعد أن كانت تزعم أنها لم تكن على خطيئة فتحتاج معها إلى التوبة. فكم هو قبيحٌ أن يتمظهر الإنسانُ بغير حقيقته، ويدعيَ ما ليس له، ويضعَ نفسه فوق قدرِها.

ويا عجبًا للإنسان! ما أظلمه لنفسه وما أجهله! كيف ينسى ضعفه؟! وكيف يغترُّ بقوته التي يرى منها في نفسه ما لا يراه في الناس من حوله؟! أوَنسي أن الناس إنما هم أغراض شاخصةٌ للمنايا وما دونها من الأدواء؟!

ويقول قائل: ليس بمستغرَب أن يكون حال الإنسان في الرخاء غيرَه في الشدة، فمن الطبيعي جدًا أن يكون إقباله في شدته وضرائه أكثرَ منه في صحّتِه ورخائه، وهذا التباين بين حاليه في الرخاء والشدة والصحة والمرض يوجبه ما تُحدِّثُنا عنه من الضعف الجبلّي الذي فُطر عليه الإنسان، فلِم يُنكر منه هذا الاختلاف؟! هل نريد منه في مرضه أن يمد في غلوائه ويُمعنَ في طغيانه كما كان في صحته؟! أليس في إقباله على الله معنى التوبة التي نحبها لكل أحد؟!

وقائل هذا مُحقٌّ في تساؤله وتقريرِه، ولكنه ترك بعضَ الحق لم يَقُلْه، وأجرى اعتراضَه في غيرِ ما نعرضه الآن. نعم، ليس عيبًا ولا عارًا أن يُظهرَ العبدُ عند مرضه ضعفَه، ويعرض عند شدته حاجته بين يدي ربه، ويرفع إليه عند ضرائه أكفّ الضراعة، ويلحَ في الدعاء في ساعة البلاء، ويكثر حين ذلك من التوبة والاستغفار. ليس شيء من هذا معيبًا؛ فباب التوبة مفتوح، ورحمة الله واسعة، وهو يحب التوابين ويحب الملحين في الدعاء، ويحب أن يرى عبدَه منطرحًا بين يديه في مظهر مسكنةٍ وإخبات، كل هذا يحبه الله من عبده، ولو كان من قبل ساعة الشدة غافلاً مفرطًا. ولكن الذي يبغضه الله ويمقته من عبده أن يدع هذا التضرعَ ويترفّعَ عن هذه المسكنة وينسلخَ من هذه الحالة ويتنكر نعمة الله عليه حين يكشف عنه ضُرَّه وحينما يذهب عنه ما كان يجد من الشدة والبلاء؛ كأنما لم يُصبْه مرضٌ قط، وكأنما لم يَدعُ ربَّه ساعة، فهذا هو الذي يمقته الله، وهو الذي ننكره ونتواصى على تطهير نفوسِنا منه.

ويحدثنا القرآن عن حال الإنسان في البأساء والضراء مقرونًا بحاله في الرخاء والسرّاء ليصوِّر لنا قدر ضعفه وعجزه، وأن فرحَه وفخره وكبرياءَه في حال الصحة إنما هو اغترار، وأن إعراضه بعد انفراج الشدة ليس إفلاتًا من قبضته سبحانه، ولا هربًا من سلطانه، ويُبين لنا هذا العرض للتباين بين حال الإنسان في السراء والضراء كم هو مغرورٌ حين يعتدُّ بقوته، وكم هو جاهل حين يركن إلى علمه، وكم هو شقي حين يُطغيه الرخاء والصحة.

 يحدثنا القرآن عن ذلك في غيرِ ما آية، فيقول سبحانه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت:51]، وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ [الزمر:8]، وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12].

قَلَّ من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن ثمةَ ضعفًا، وأن هناك عجزًا، فساعات الرخاء تُنسي، والإحساسُ بالغنى يطغي، ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو ذو دعاء عريض، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. حتى إذا كشف الله عنه ضُرَّه وأجاب دعوتَه ولى مدبرًا ولم يعقب، ولم يتفكر ولم يتدبر، وعاد إلى ما كان عليه من قبل من غفلة وإعراض.

والعاقل يدرك ببصيرته أن زوال المرض وانكشاف الضُّرِ ورجوع العافية تسري في بدنه من جديد، ليس انسلاخًا من حال الضعف ولا ارتدادًا إلى حال القوة، بل هو في الحقيقة انتقال من ضعف أشد إلى ضعف أخف، ومن ضعف أعلى إلى ضعفٍ أدنى.

أيها الأحبة في الله، كثيرٌ من الناس من يتبنى أفكارًا ويتخذ أهواءً ثم تُبدي لنا الأيام أن كثيرًا مما يقوله ويعتقده لم يكن عن قناعة، بقدر ما هو مدفوعٌ بشهوةٍ مخلوطة بهوى ومصلحةٍ عاجلة، وما يدعيه من استيقانه لأفكاره وآرائه وسلوكه كفيلٌ أنْ يُبطِلَه مَسٌّ من مرضٍ مخوف، وحين ذلك يبرأ من بعض قناعاته التي كان يدعيها حقائقَ يناضل عنها، ويطّرحُ عنه شُبُهًا كان يبثها ويلقيها ليفتن بها الناس، فإذا مَسٌ من مرض مخوف يمر به فيترك قلبه صلدًا من كل هذا الركام والران، ويردّ نفسه إلى فطرتها الأولى إلى الإيمان بالله وتصديق رسالاته واتباع رسله، وينقشع عنه غمامُ الشُبَهِ وتتهاوى من عقله فلسفاتٌ ضالة وآراءٌ فاسدة.

ويحدثنا التاريخ شواهد كثيرة تُثبت هذه الحقيقة، لا عن عوامٍ يقلدون ويُخدعون، بل عن مفكرين عظماء وفلاسفةٍ أذكياء، أرهقهم ذكاؤهم حيرةً وضلالاً، فهداهم إلى الحق مَسٌ من مرضٍ مخوف، أذهب عنهم رجس الشيطان، وربط قلوبهم بالكريم الرحمن، وكان المرض شدةً خيرًا لهم من عمرٍ قضوه في الرخاء، وهداية في ضراء خيرٌ من ضلالةٍ في سراء، وعلى العبد أن يسأل ربه الهداية في الرخاء، ولا يجوز له أن يسأل لأجل الهداية الضراء.

اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وتولّ أمرنا.

 

الخطبة الثانية

أما بعد: فهذا شاعرٌ من شعراء العصر الحديث، خاض في متاهات كثيرة، وتقلب بين أفكار خبيثة، ونظم فيها قصائد كثيرة متأثرًا بها، تدعو إليها، كان بعيدًا عن هدي الإسلام، وفي سنواته الأخيرة أصيب بمرض عُضال كان الجسرَ الذي عبر فوقه إلى الهداية.

حينما أحس بدبيب المرض في جسمه راح يبث شكواه لربه محسنًا به الظن، ذاكرًا لأنعُمه التي كانت تترى عليه من قبل وهو في غفلة، وقاوم المرض بنفس محسنةٍ الظن بالله، صابرةٍ لبلائه غيرِ قانطة ولا يائسة، وما لبث أن قصد الباب الذي كان يمر به ولا يقف عنده، بابَ الله الذي لا يغلق لطالب، وجثا على أعتابه يبث عنده همومه، ويشكو إليه آلامه المبرحة، ذاكرًا لفضله وعطائه، راجيا ضارعا متساميا في شكواه، وفي وهدة المرض بدأت تنزاحُ عنه التصورات المختلطة المضطربة، ويتألق في قصيدةٍ رائعة يصوِّر لنا فيها أدبه مع ربه وحسن ظنه به ورجاءه له وإقرارَه لنعمه السابقة، تصور ناصع يكشف الفطرة السوية في لحظات المحنة.

وفي ثناياها دعوة لكل غاوٍ شرد بعيدًا عن دروب الهدى كي يؤوب إلى ربه متطهرًا من التصورات الضالة، وسيجد الأبواب مفتوحة للتوبة والعودة، وسيجد أن وقفته هذه هي الوقفة الصادقة، وكل ما سواها باطل.

وقصيدته مناجاة لله عز وجل، تقدم الحمد شافعًا بين يدي الشكوى، وتقرن صور الألم بالصبر والتجلد، وفيها مشاعر إيمانية فياضة يمتزج فيها الصبر بالشكر، يقول الشاعر:

لك الحمدُ مهمـا استطالَ البـلاءُ       ومـهـمـا استـبـدَّ الألَم

لك الْحمـد إن الرزايـا عطـاء        وإن الْمصيبـاتِ بعضُ الكرم

ألَم تعِطنِي أنـت هـذا الظـلام        وأعطيتَني أنت هـذا السَّحَـر

فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ الغمـام؟!       وتغضبُ إنْ لم يَجُدْهـا المطـر

شهـور طِـوالٌ وهـذي الجراحُ       تُمـزِّق جَنْبِي مثـلَ الْمـدى

ولا يهـدأ الداءُ عنـدَ الصَّبـاح       ولا يمسحُ الليل أوجاعَه بالرَّدى

ولـكنَّ أيّـوبَ إنْ صاحَ صـاح       لـك الْحمـدُ إن الرزايا نَدى

وإنَّ الْجـراح هدايـا الْحبيـب       أَضـمُّ إلى الصـدر باقاتِهـا

هدايـاكَ فِي خـافقي لا تَغيـبُ        هدايـاك مقبـولةٌ هـاتِهـا

اللهم ارحم ضعفنا واجبر...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً