أما بعد: أيها الأحبة في الله، ثمة أمر نُحِسّه جميعًا في ذواتِنا، فلا يخفف عنا ثِقْله إلا أننا نراه في غيرنا، كما نحسه في أنفسنا، وكلما ذهبنا نتحسّسه في الناس أيقنا أننا إنما نتحسّس طبيعةً بشريةً لن تخطئنا في أحد من البشر، إلا من كمَّله الله وشرّفه بشرف وحيه من الأنبياء والمرسلين.
تلكم الطبيعةُ هي الضعفُ الذي يقصرُنا عن الكمال، ليردَّنا إلى طبيعتنا الواحدة التي لن نبرحها وإن حاولنا الخروج عنها. فما نحن إلا مظانٌّ لما دون الكمال، مظانٌ تشخص فيها الأخطاء، ويتجسد فيها النقص، ويُرى خلالها الخلل. وما جاوزنا وصف الخالق سبحانه الذي هو أعلم بأنفسنا منا، أَلاَ يَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ. وصفنا ـ ومن أصدق من الله حديثًا؟! ومن أصدق من الله قيلاً؟! ـ فقال: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا.
ومن المفارقات العجيبة أننا كثيرًا ما نحتمي بهذا الضعف لتسويغ أخطائنا ولِيعذرَنا به الناس، فإذا أخطأنا أعلنّا في الملأ أننا بشرٌ، وكلهم يخطئون إلا المعصومين من الأنبياء والمرسلين.
ولكننا لا ننظر النظرة نفسَها في أخطاء الناس، لا سيما إذا أخطؤوا في حقِّنا، ويا لها من مفارقة مضحكة؛ أن ننسب أخطاءنا إلى ضعفنا لا إلى تمادينا في التقصير وعدمِ المبالاة، وننسبَ أخطاءهم إلى تقصيرهم وفساد ضمائرهم وخبثِ نفوسهم، لا إلى الطبيعة التي جُبِلوا عليها، وكأنهم ليسوا كهيئتنا وخُلقوا على جِبلَّتِنا، فنحن نخطئ لأننا ضعافٌ مجبولون على الخطأ، أما الناس في نظرنا فيخطِئون لأن طواياهم خبيثة وقلوبهم مريضة، ولا نرى في أنفسنا هذا الذي نراه في الناس ونسْخَطُهم عليه، وربما كانوا كذلك، ولكن لماذا لا نكون نحن أيضًا كذلك إذا أخطأنا خطأهم وزلقْنا مزلَقَهم؟!
ومدخل الخطأ في هذه النظرة المزدوجة أننا وسَّعنا من قدر الضعف الجِبلِّي في حقنا، وضيقناه في حق الآخرين، فنظرنا إلى بعض أخطائنا وذنوبنا على أنها ضعفٌ جِبلِّي، بينما هي في الحقيقة تفريط واغترار وإصرار على الخطيئة لا يقتضيه الضعفُ الجبلِّي.
ومن المفارقات العجيبة أيضًا أن يعتذرَ الإنسانُ بضعفه كلما زلت به قدمه إلى معصية أو تقصير، إلا حينما تنازعه نفسه إلى الكِبر والطغيان، فتذكِّرُه بقوة جاهه وكثرةِ ماله وولده ونفوذِ سلطانِه، فيحدوه هذا التذكر إلى الكِبر والطغيان، ثم يتناسى في غمرة الكِبر هذه تلك الطبيعةَ التي طالما تذكرها وتحجج بها ليسوغ خطأه وتقصيرَه، يتناسى في نشوة الكبر ضعفَه الذي جُبل عليه، وأنه عبد من عباد الله، ضعيفٌ مفتقر إلى الله.
ويا لها من مغالطة مضحكة؛ أن يظل الضَعفُ الجبلي عذرًا يُعتذر به لتسويغ الوقوع في الزلات، ثم لا يكون مانعًا من النزوعِ إلى الكِبر الذي هو شعور بالقوة والكمال. أليس من المغالطات المضحكة أن يعتذر الإنسانُ كلما عصى أو أخطأ بأنه عبدٌ ضعيفٌ مجبول على الخطأ والنقص لا حول له ولا قوة إلا بالله، ثم بعد هذا الاعتراف كلّه تراه في عُتُوٍّ وغرور، والذي هو شعور كاذب بالكمال والقوة والرفعة؟! كيف يجتمع هذان الشعوران المتناقضان: شعور بالنقص والضعف وشعورٌ بالقوة والكمال؟!
وحتى لا نقع في هذه المشاعر المتناقضة، وحتى لا يصبح الشعورُ بالضعف الفطري ملجأً لتسويغ الخطيئة ومغريًا للإسراف والتفريط في جنب الله، فإننا معنيون بمعرفة نظرة الإسلام إلى هذا الضعف وقدرِ مراعاته له.
الذي لا نختلف فيه هو أن هذا الضعف الذي نجده متمثِّلاً في بعض أخطائنا وزلاتنا هو طبيعة بشرية لا يخرج عنها أحد إلا باصطفاء من الله، والذي ينازع في هذا إنما ينازع في أمر قرّره الشرع وأثبته، فهي منازعة في حقيقة شرعية قرآنية، هي قوله تعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا.
وها هنا سؤال في غاية الأهمية: هل كل زلةٍ لا تخرج عن هذه الطبيعة؟ وهل يصح كلما زل الإنسانُ أو قصر أن ينسب ذلك كله إلى ضعفه الجِبلِّي ويجعله معذرةً له؟
وأقول في الجواب: إن من تتبّعَ الشرع في تكاليفه ووعدِه ووعيده يعرف الجوابَ الحقَّ لهذا السؤال الكبير. فالذي نعرفه من معرفتنا لشرعنا في أمره ونهيه ووعده ووعيده أن للضعف الجبلي الذي يُعذر به الإنسانُ حدودًا ينتهي عندها العذر، ولو كان الضعف الجبلي مراعى بلا حدٍ ولا قيد لما كان من حاجةٍ إلى نصوص الوعد والوعيد، ولا إلى فرض الحدود والتعزيرات الشرعية، بل لما كان من سائغٍ أن يكون ثمة جنةٌ أو نار.
من هنا نعلم أن من الاغترار والجهل أن يسرف المرءُ على نفسه بالخطايا وأن يفرط في جنب الله ثم يعتذر عن هذا كله بضعفه الذي فُطر عليه، فهذا اغترار وحيلة من حيل الشيطان الرجيم، ولو صح هذا لما بكّت اللهُ المسرفين على أنفسهم بمعصيته.
إن وجود المحسنين السابقين بالخيرات دليل على أن للضعف حدوده الطبيعية، وما زاد عنها فتقصير وتفريط وفساد.
فيقال للظالم لنفسه بالمعاصي والتفريط في الطاعة: لو كان تفريطُك وخطؤك من مقتضى الضعف البشري لما سبقك غيرك من المحسنين وهم كثير.
إن الضعف البشري يقتضي أن لا يبقى أحد بلا خطيئة، ولكنه لا يقتضي الإصرار على الخطيئة وتسويف التوبة، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
وحين يثني الله على المتقين فليس لأنهم بلا خطيئة، وإنما أثنى عليهم بصفات منها أنهم لا يصرون على ما فعلوا من كبيرة أو صغيرة.
قد يبدو لبعضنا أن المتقي هو ذلك الرجل الذي لا تبدرُ منه هنَةٍ ولا يُرى في مكانِ معصية، أو هو ذلك الرجل الذي لا يبرح المسجد تعلُّقًا بالآخرة وحبًا للطاعة. وهذا ظنٌ خاطئٌ بنص القرآن، فالمتقي بشر من البشر، له حاجات وفيه ضعف، ينازع الرغبات والشهوات، ويجاهد نفسه لتلتزم الجادة وتدحض الشيطان.
فليس المتقي بالذي لا يقع في الفاحشة أو الموبقة، بل هو الذي إذا فعل ذكر واستغفر وأقلع ولم يُصِرَّ وأسرع إلى التوبة، وهذه من أظهر صفات المتقين: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]. ووصْفُهم بـالْعَامِلِينَ يدل على تزودهم بالأعمال الصالحة غير مغترين ولا آمنين ولا قانطين.
فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون الذين لا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، وكما قال المسيح عليه الصلاة والسلام : (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).
إذًا الضعف طبيعة بشرية، ولكنها طبيعة لا تسوغ كل الأخطاء، ولا تشرع التفريط والتسويف والإسراف.
والشرع قد راعى هذاه الطبيعة في تكليفاته وتشريعاته، فجاءت وِفقًا لهذه الطبيعة الضعيفة في كل تكليف، أمرًا كان أو نهيًا، وعدًا كان أو وعيدًا.
فمن ذلك يُسرُه في التكليف، فشرع الصلاة خمسًا وجعلها بأجر الخمسين، وأراد الله بحكمته أن يراجعه نبيه لما فرضها خمسين صلاةً تمهيدًا لهذا التخفيف ومراعاة لهذا الضعف، فمن فرط في الخمس فقد جاوز حدود الضعف إلى الكسل والتهاون، وربما بلغ درجة الاستخفاف. وفرض الحج مرة واحدة في العمر، فمن لم يحج وقد استطاع فقد جاوز الضعف إلى التفريط والكسل. وفرض الزكاة قدرًا يسيرًا في كل حول، فمن لم يخرجها طيبة بها نفسُه فقد جاوز الضعف إلى البخل والشح.
كما يظهر مراعاةُ الضعف البشري في فتح أبواب التوبة للخاطئين، بل وللخطّائين كذلك، حتى ولو بلغت ذنوب المرء عنان السماء، فإنه متى تاب إلى الله توبة نصوحًا تاب الله عليه، وقد يبدّل سيئاته حسنات، الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال:66].
|