.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

سياسة الإسلام في المال (1)

5054

الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد

قضايا المجتمع, محاسن الشريعة

سامي بن عبد العزيز الماجد

الرياض

جامع الرائد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية المال في الحياة. 2- الحكمة من جعل الناس متفاوتين في أرزاقهم. 3- المقصود بالتسخير في قوله تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. 4- الإسلام لا يقِر احتكار الغنى. 5- ذكر بعض الضمانات التي ضمنها الإسلام ليسد حاجة الفقير.

الخطبة الأولى

أيها المسلمون، المال عصبُ الحياة، به تتحرك دَفّتُها، وتقوم للبشرية مصالحها، فالناس لتملُّكه محتاجون، وبسببه مسخّرون، وإنما يختلفون في طلب الفضل والزيادة، فحاجتهم إليه لتحقيق حوائجهم وضمان معاشهم، ولو خلق الناس كلهم أغنياء لاستغنى بعضهم عن بعض، ولشلت حركة الحياة، ولو جعلوا جميعًا فقراء لكان عجزهم عن تملك المال عجزًا عن تحصيل الحوائج مؤذنًا بتعطل الحياة وفساد المعيشة.

فما أحوجهم أن يجعلهم الله متفاوتين في عقولهم وقدراتهم، وفي درجات مختلفة فقرًا وغناءً، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، والمقصود بالتسخير ليس تسخير الأدنى للأعلى، أو الأضعف للأقوى، أو الفقير للأغنى، فينحو منحى واحدًا، فما هذا بالتسخير الذي تصلح به الحياة وتتحرك به دفّتها، فيكون لأجل ذلك مأذونًا به، فما هذا إلا تسخير الاستعلاء والتسلط والتكبر والتجبر، مؤذن بخراب الحياة وفساد الأرض، أُهلك بسببه هابيل وفرعون وقارون وأشياعهم من الجبارين المتكبرين.

فليس المقصود التسخيرَ الذي يغري إليه الكِبر والاستعلاء والتحقير والاستضعاف، وإنما المقصود التسخيرُ الذي تدفع إليه الحاجة وتقوم به المصالح، وهو التسخير المتبادَل بين كل طرفين متفاوتين في القدرات أو المهارات أو الرزق.

وبهذا المعنى يكون الغني مسخَّرًا للفقير كما سخِّر الفقير للغني، يسخر الغني ليجمع المال، فيتوسع به ويرتزق منه ذاك المحتاج، ويطلب المحتاجُ المالَ فيسخِّره الله لخدمة الغني، والتفاوت في الرزق هو الذي يسخِّر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا لتكتمل دورة الحياة.

وعلى هذا فليس الغني مذمومًا بغناه، ولا الفقير مذمومًا بفقره، وليس مطلوبًا من الغني أن يتحول عن غناه ويتحلل من ماله لأجل أن غيره فقير، وليس ممدوحًا من الفقير أن يقيم على فقره لأن غيرَه قد تكبَّر بغناه، بل مطلوب منه أن يسعى للانفكاك عن الفقر، بل طلبه للخلاص من الفقر يحقق التسخير المذكور.

وإذًا فطبيعي أن يكون في المجتمع فقراء، كما يكون فيه أغنياء، وطبيعة الحياة تفرض هذه السنة كما تفرض سننًا أخرى غيرها، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

غير أن هذه السنة توجب على الناس خلقًا يجب أن يقوم بينهم، فوجود الفقير يوجب على الغني أن يعطف عليه ويجبر كسرَه وضعفَه، ولا يجوز له أن يقول متحججًا لإمساكه وبخله: هذه سنة الحياة، وما علينا من سبيل أن لا نغيثَ الفقراء.

فإن يكن في المجتمع فقراء فتلك سنة الحياة التي تتطلب تسخير الناس بعضَهم لبعض، أما أن يكون المجتمع سماطين: فئة قليلة تحتكر الغنى، وأخرى كثيرة تعيش الفقر ولا تستطيع الفكاك منه، فليس من الإسلام في شيء، وما هو إلا بسبب تعطيل نظام الإسلام وسياسته في المال.

لا يقر الإسلام مثلَ هذا الوضع المزري؛ أن يكون المجتمع على فئتين لا ثالث لهما، فئة قليلة تمتلك ثراءً فاحشًا وتحتكر سبل الغنى، وأخرى فقيرةٌ كادحة، كثيرة العدد قليلة الحيلة، مسروقةُ الجهود مضيَّعةُ الحقوق، تعطى من الأجور أقلُ مما تستحق، تعاني فقرًا ومسغبة، لا تستطيع منه فكاكًا، قد سُدَّت في وجهها طرق الكفاف كلُّها.

فإن يقُلْ أحدٌ حين يرى المجتمع على هذه الطريقة: هذه سنة طبيعية مفروضة فلا محيد عنها ولا مسوغ لتبديلها فقد أعظم على الإسلام الفرية، وكشف عن جهله بوظيفة الإسلام ورسالته في الخلق. وكذلك من قال: إن مطالبة المجتمع بتغيير هذا الوضع هي دعوةٌ إلى الاشتراكية فقد أساء للإسلام؛ إذ جعله نظامًا تابعًا لنظام حادث رأسمالي أو اشتراكي، وجهل أن الإسلام له نظامه الاقتصادي الفريد المستقل، فما هو بالمذهب الملفَّق بين الرأسمالية والاشتراكية.

إن الإسلام يقر سنة الفقر، فالناس متفاوتون في أرزاقهم وقدراتهم، ولكنه لا يقِر احتكار الغنى، بحيث يكون المالُ دُولةً بين الأغنياء، ((ولا يحتكر إلا خاطئ)). وهو كذلك لا يقر في مجتمع المسلمين أن تُستغل حاجة الفقير، فيسرقَ جهده ويعطى أقل من أجره.

وما أظلمَ أولئك الذين يجتزئون الحقائق فيبدون منها ما يروق لهم ويخفون منها ما لا يرضون، كما يفعل أسلافهم كفرة أهل الكتاب، يبدون بعض الكتاب ويخفون منه كثيرًا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويكتمون بعض ما أنزل الله.

قد تسمع من بعض الأثرياء من يسوغ استغلاله للفقير الاستغلال المجحف بحقه، فيقول متحججًا: من السنن التي يقرها الإسلام أن الفقير مسخر للغني، فيقف عند هذا الجزء من الحقيقة كما يقف بعضهم عند قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، ويريد من وقوفه عند هذا الحد من الحقيقة أن يخفيَ بقيتَها التي تحجه وتبطل اعتذاره.

فلا بد أن تذكر الحقيقة كاملة، وإلا تشوّهت صورة الإسلام، فالحقيقة الكاملة هي أن الإسلام يقر أن يكون الفقير مسخرًا للغني، ويقر مع ذلك أن الغنيَ أيضًا مسخَّر للفقير، وتسخير الغني للفقير هو أن يكون بابًا يسترزق منه الفقير ويسد منه جوعته بعملٍ ينتفع به الغني ويستأكل منه الفقير، وأن يكون الغني منصفًا معه، مؤديًا لحقه الذي استحقه بخدمته، فإذا ظلم الغني الفقير ولم يؤد إليه حقه المستحق واستغل حاجته فغشه وهضمه لم يكن حينئذ مسخَّرًا للفقير، بل مستغل له آكل لحقه.

طبيعي أن يكون في المجتمع أغنياء وآخرون فقراء، لكن ليس من الطبيعي في نظام الإسلام أن يكون المجتمع كلُه فقيرًا إلا قلة قليلةً تعيش غنى فاحشًا. ليس من الإسلام في شيء أن يكون المجتمع سماطين: بئر معطلة وقصر مشيد.

 

الخطبة الثانية

أما بعد: إن نظام الإسلام العادلَ يجعل بين هاتين الطبقتين طبقةً ثالثةً وسطى بين الفقر والغنى، تعيش حياة الكفاف. وضوابط الكسب في الإسلام تضمن أن تكون هذه الطبقة الوسطى هي الطبقة العريضة في المجتمع؛ لأن الإسلام يحرم احتكار وسائل الكسب، ويمنع أن يكون المال دولة بين الأغنياء، فيزداد الغني غنى والفقير فقرًا، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7].

والضمانات التي ضمنها الإسلام ليسد حاجة الفقير لا تنحصر في فرض الزكاة والترغيب في الصدقة والإحسان، فما هذا إلا بعضُ أبوابها، ولكنه جعل من ضمانات سد حاجة الفقير فتح أبواب الرزق والكسب أمامه حتى يكون هو وغيره من ذوي الجاه والغنى، في ولوج ذلك الباب سواء، لا تنافس بينهم إلا بالمهارات والقدرات والحذق، يلتغي معها شرف النسب ونفوذ الجاه وكثرة المال.

وضمن للفقير ذلك الحق كذلك بتحريم الرشوة، حتى لا يحتكره عليه غني يشتري ذمم الناس بماله.

وضمن له ذلك كذلك بأن جعله هو وغيره من الناس سواء في الاستحقاق من بيت المال، وقطع الطريق على أصحاب الجاه والثراء أن يستأثروا ببيت المال ومقدَّرات المجتمع، فمن أخذ شيئًا من بيت مال المسلمين بغير عمل يفيد منه المجتمع فهو غاصب كما يغصب الظالم مال أخيه المسلم، وقال : ((إن أقوامًا يتخوَّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)). وعن أبي هريرة ‏ قال: ‏افتتحنا‏ ‏خيبر ‏ثم انصرفنا مع رسول الله ‏ ‏إلى ‏وادي القرى، ‏ومعه عبد، فبينما هو يحُط ‏‏رحل ‏رسول الله ‏إذ جاءه سهم ‏عائر ‏فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الشهادة، فقال رسول الله ‏: ((‏‏بل ـ والذي نفسي بيده ـ ‏إن ‏‏الشملة ‏التي أصابها يوم ‏خيبر ‏من المغانم لم ‏‏تصبها ‏‏المقاسم لتشتعل عليه نارا))، فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي ‏بشراك‏ ‏أو بشراكين، ‏فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله ‏: ‏((شراك ‏ ‏أو ‏شراكان ‏من نار)) أي: لو لم تردَّه. ‏فإذا كان هذا في شملة محقرة فكيف سيكون الأمر لو كانت ملايين طائلة؟!

لقد ضمن الله لكل مخلوق رزقه، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]. فإن يُحرم أحد رزقه ويسلمه الحرمان إلى الهلاك فليس ذلك لأن الله لم يضمن له الرزق، وإنما ذلك لأن غيره قد اغتصب حقه واستحوذ على رزقه، كما تفعل الدول العظمى بشعوب الدول الأخرى، تسرق ثرواتهم وتستأثر بمقدراتهم وخيراتهم وتفسد في أرضهم وتمنعهم حقوقهم، وانظر شاهدًا على ذلك حال الشعوب الإفريقية الفقيرة المستضعفة، وحين تمن عليهم ببعض الإغاثة فإنما ترد إليهم نزرًا من حقهم المستلب.

وإذا وقع اختلال في الحياة واستئثار بالمال واتساع لدائرة الفقر وتفاحش في ثراء الأغنياء فإنما سبب ذلك الظلم وغياب العدل وقلة الوازع، يلحقه تقصيرٌ من بعض من وقع عليه شيء من ذلك، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً