أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفْسِيِ بِتَقْوَى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَهِي وَصِيَّةُ الغَنِيِّ القَهَّارِ العَزِيزِ الجَبَّارِ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ الأَبْرَارِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيُّها الناس، للألفاظِ والكلماتِ دلائلُها ومعانيها التي تحملُ في طيَّاتها الخير فيُجازى عليها الإنسانُ بالإحسان إحسانًا، أو تحملُ في طيَّاتها الشرَّ والفُحْشَ والبذاءَ فيُجازى عليها بالسيئات المضَاعَفَةِ إلى يوم المعاد.
وإنَّ أعظمَ مثلٍ توضيحيٍّ لذلك ما ضَرَبه اللهُ تعالى في كتابه الكريم في قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:24-27].
عباد الله، إنَّ جارحةَ اللسانِ لها أعظمُ الأثرِ في حياةِ المسلمِ دينًا ودنيا، ربطَ اللهُ عليها الفلاحَ، وعلَّقَ عليها السعادةَ أو الشقاوةَ في العاجلِ والآجلِ، ورتَّبَ عليها الجزاءَ والعقابَ. بلكمةٍ واحدةٍ يدخلُ العبدُ في الدين والملَّة؛ ألا وهي كلمةُ التوحيدِ الخالصِ: "لا إله إلاّ الله محمدٌ رسولُ الله"، وبكلمةٍ واحدةٍ يتبوّأُ العبدُ في الجنة غُرفًا من فوقها غُرفٌ مبنيّةٌ تجري من تحتها الأنهار، وبكلمةٍ أُخرى يزلُّ العبدُ في النار أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب، ولرُبَّ كلمةٍ أوردت صاحبَها المواردَ، فندمَ عليها ولاتَ ساعةَ مندم.
إِنَّ الكلمات ـ عباد الله ـ هي التُرجمانُ المعبِّرُ عن مستودعات الضمائر، والكاشفُ عن مكنوناتِ السرائرِ، فإِذا أردت أن تستدل على ما في قلب الإنسان فانظر إلى كلماته وألفاظه، فإنَّها الدليل على ما يكنُّه في قلبه من خير أو شرٍّ، شاء أم أبى، قال الإمام يحيى بن معاذٍ التَّابعيُّ: "القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مصارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلَّم، فإنَّ لسانه يغترف لك مما في قلبه".
وإنَّ من الأمور المقرَّرة المشاهدة في حياة الناس وواقعهم ما ذكره العلاَّمةُ ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله من أنَّ الإنسان يهون عليه التحفُّظُ والاحتراز عن كثيرٍ من أفعال الحرام، من الظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه؛ حتَّى إنَّك لترى الرجل يُشار إليه بالدين والعبادة والزهد ونحوها من صفات الخير ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ويتقلَّبُ في المحرمَّات، لا يبالي بما يقول، يتكلَّم بالكلمات من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً، يهوي بالكلمة الواحدة في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، والله المستعان.
قال بعضُ السلف: "لا تجدُ شيئًا من البرِّ يتبعُه البرُّ كلُّه غيرَ اللسان؛ فإنَّكَ تجدُ الرجلَ يصومُ النهارَ ويُفطرُ على الحرامِ، ويقومُ الليلَ ويشهدُ الزورَ بالنهار، ولكنَّكَ لا تجدُه لا يتكلَّمَ إلاَّ بحقٍّ فيُخالفُ ذلك عملُه أبدًا"، ولأجل هذا ـ أيُّها الناسُ ـ كان من أولى الاهتمامات في حياة المسلم حفظُ لسانه إلاّ من الخير وإحسان كلامه وإطابتُهُ وحفظُهُ عَنْ قَوْلِ الشَّرِّ، قال المصطفى : ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باِللهِ وَاليَومِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ)) متفقٌ عليه.
إِنَّ اللسانُ هو الميزانُ الذي يُوزنُ به الناسُ، والمعيارُ الذي تُعرفُ به أقدارُهُم، حتى قال بعضُ السلف: "إنّي لأرى الرجلَ فيُعجبُني، فإذا تكلَّمَ سقطَ من عيني". وكان أبو بكرٍ الصِّديقُ يضع حصاةً في فِيهِ يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد). وكان ابنُ مسعودٍ يقول: (يا لسانُ، قُلْ خيرًا تغنمْ، واسكتْ عن شرٍّ تسلمْ قبل أن تندمَ، والله الذي لا إله إلاّ هو ما شيء أحوج إلى طول سجنٍ من اللسان).
وإذا أنعم اللهُ سبحانه وتعالى على العبد بصدق اللهجة وطيب الحديث وجمال المنطق شَرُفَ قدرُهُ، وحُمِدت سيرتُهُ، وحَسُنَت عاقبتُهُ، فملكَ قلوبَ الناس، وأمنوه على أقوالِهم ووصاياهم وأماناتِهم. من صَلحَ منطقُ لسانه وطاب ظهرَ ذلك على سائرِ عملهِ، فأكسبَه حُسْنًا وأجرًا وقبولاً، ومن فسَد منطقُهُ وخَبُثَ انعكس أثرُه على سائر عمله.
الكلامُ هو حصادُ اللسان، ولذا كان لِزَامًا على المرءِ العاقل أن يكون كلامُه فيما يعودُ عليه بالنفع ويُجنّبه الضّررَ، وأن يحترسَ من زَلَلهِ، وأن يحذرَ من فضولِه بالإمساكِ عن كثيرِه والإقلالِ منه إلاَّ ما كان في طاعة الله سبحانه من تهليلٍ وتحميدٍ وذكرٍ وتسبيحٍ ودعاءٍ واستغفارٍ؛ فإنَّ الإكثارَ منه هو النجاةُ. جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ فقال: دُلَّني على عَملٍ يُدخلُني الجَنَّةَ، قَالَ: ((أَطْعِمِ الجَائعَ، وَاسْقِ الظَمآنَ، وأمُر بالمعروفِ، وَانْهَ عن المنكرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ)) رواه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيّدٍ. وعند الترمذيِّ بسندٍ صحيحٍ أنَّه قَالَ: ((إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفِّرُ اللِّسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
قال عطاءُ بن أبي رباحٍ رحمه الله: "فضولُ الكلام: ما عدا تلاوةَ القرآن، والقولَ بالسنّة عند الحاجة، والأمرَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر، وأن تنطقَ في أمرٍ لا بُدَّ لك منه في معيشتكَ، أمَا يستحي أحدُكم لو نُشرت عليه صحيفتُه التي أملاها صدرَ نهارهِ أن يرى أكثرَ ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟!"، ثمّ تلا قولَه تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
عباد الله، ولقد ذكرَ أهلُ العلم أنَّ للكلامِ شروطًا، ووضعوا له ضوابط لا يسلمُ المتكلّمُ من الزَلَل في حديثه إلاّ بالحفاظ عليها ومراعاتها، ولا يَعْرَى كلامُه من النقصِ ويَسْلَمَ من الخَلَلِ إلاَّ بعدَ أن يستوفيَها ويتأدَّبَ بها في كلامه:
أولُها: أن يكون الكلامُ لداعٍ يدعو إليه؛ إمّا في جلب نفعٍ أو في دفع ضَررٍ، فالمسلمُ الحقُّ هو من يسألُ نفسَه قبلَ الكلامِ عن الداعي له، فإن وجدَ داعيًا للكلامِ تكلَّمَ، وإلاَّ فالصمتُ أولى به من منطقٍ في غيرِ حينهِ؛ لأنَّ الإكثارَ من الكلامِ في غيرِ ذكرِ اللهِ وعبادتِه أو مصلحَةِ النفسِ والآخرين سببٌ للوقوع في السَقَط وزيادةِ الهَذَيَانِ الذي يذهبُ معه الرُّشدُ وتستجلبُ الفضائح، فيكونُ القولُ مرذولاً، والرأيُ معلولاً، ولرُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها: دعني. قال : ((اُخْزُنْ لِسَانَكَ إلاَّ مِن خَيْرٍ؛ فَإنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ)) رواه الطبرانيُّ وابنُ حبّان بنحوه.
قال عمرُ بن عبد العزيز : "من لم يَعُدَّ كلامَه من عمله كثُرت خطاياه"، وفي الأثر: "لسانُ العاقل من وراء قلبهِ، فإذا أرادَ الكلامَ رجعَ إلى قلبه، فإن كان له تكلَّمَ، وإن كان عليه أمسكَ، وقلبُ الجاهلِ من وراءِ لسانِه، يتكلَّمُ بكلِّ ما عَرَضَ له"، وفي منثور الحِكَم: "اعْقل لسَانَكَ إلاَّ عن حقٍّ توضِّحُه، أو باطلٍ تدحضُه، أو حكمةٍ تنشرُها، أو نعمةٍ تذكرُها، وما عقَلَ دِينَهُ من لم يحفظ لسانه، وكثرة الكلام تذهب الوقار"، وَمِمّا ينسب لنبيِّ الله سليمان بن داود عليهما السلام قوله: ((إِذَا كان الكلام من فضَّةٍ، فالسكوتُ من ذهبٍ)).
إِنَّمـا العـاقل من أَلْجَمَ فاهُ بلجامْ لُذْ بداء الصَّمْتِ خيرٌ لك من داء الكلام
وثاني شروط الكلام عباد الله: أن يكون في موضِعه ووقتِه وفِيما يعني الإنسان؛ فإنَّ الكلامَ في غيرِ حينِه من القبائحِ التي تضُرُّ ولا تنفعُ، والكلام فيما لا يعني مخالف لحسن الإسلام، فمن عَلِمَ متى يحسُنُ له الكلامُ أدركَ نجاة نفسه ونفعها.
قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: (خمسٌ لَهُنَّ أحبُّ إليَّ من الدُّهْم الموقوفة ـ يعني: جياد الخيل والإبل ـ: لا تتكلَّم فيما لا يعنيك؛ فإنَّه فضلٌ، ولا آمن عليك الوِزْرَ، ولا تتكلَّم فيما يعنيك حتَّى تجد له موضعًا؛ فإنَّه رُبَّ مُتكلِّم في أمرٍ يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعَنِتَ، ولا تُمار حليمًا ولا سفيهًا؛ فإنَّ الحليمَ يَقْلِيكَ والسَّفيه يؤذِيكَ، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبُّ أن يذكرك به، وأعفه مما تُحِبُّ أن يُعْفِيك منه، وعامل أخاك بما تُحِبُّ أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنَّه مجازى بالإحسان مأخوذٌ بالاحترام).
وثالثُها: أن يكون الكلامُ على قدر الحاجة؛ فإنَّه إذا زادَ عنها كان هَذَرًا، وإذا نقصَ كان عِيًّا وحَصَرًا، وكلاهُما شَيْنٌ يجبُ على المرء الحذرُ منه؛ فإنَّ مقتلَ المرء بين فكيه، وَإِنَّما يُبدي عيوبَ ذوي العيوبِ المنطقُ، ولقد قال رسولُ ربِّ العالمينَ لمعاذِ بن جبلٍ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلى وجوهِهم إلاَّ حَصَائِدُ ألسنتِهم؟!)) رواه الترمذيُّ وهو صحيحٌ.
وإِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليكره الانْبِعَاقَ في الكلام؛ وهو التوّسعُ فيه والتكثُّر منه دون فائدةٍ تُرجى أو شرٍّ يُدفع، وَإِنَّ من الخصائص العظيمة لكتاب الله تعالى التي تحدَّى بها العرب إنسهم وجنَّهم بلاغته وإيجازه وفصاحته وقصر آياته وكلماته، فنضّر اللهُ وجه امرئٍ أوجز في كلامه فاقتصر على قدر حاجته، وسَلِمَ من الزَّلَل والخطأ لسانُه. قال الإمامُ مالكُ بن أنسٍ رحمه الله: "لا خيرَ في كثرة الكلام ـ يعني في غير ذكر الله وعبادته ـ، واعتبرْ ذلك بالنساء والصبيان، إنّما هم أبدًا يتكلّمونَ لا يصمتون". ولقد قال المصطفى : ((إِنَّ مِن البَيَانِ لَسِحْرًا)) متفقٌ على صحّته.
عباد الله، ورابعُ شروط الكلام التي ذكرها أهل العلم: اختيارُ الكلمات والألفاظ التي يتكلَّمُ بها المرءُ من أطايبِ الكَلاَمِ وأنفسِهِ، والبُعْد عن البَذَاءَةِ والفُحْشِ في القولِ والمنطقِ؛ فأحقُّ ما طهَّر الإنسانُ لسانه، لأنَّ اللسانَ عنوانُ صاحبِه، يُترجمُ عن مجهوله، ويُبرهنُ عن محصوله، فهو وزيرُه الذي يُستدلُّ به على رجحان عقله وفصاحة لسانه، حتى لقد قال بعضُ السلف: "ما الإنسانُ لولا اللسانُ؟! هل كان إلاّ بهيمةً مهملةً أو صورةً مُمثّلةً؟!".
وإنَّ لسانَ المرءِ ما لم تكن له حَصَاةٌ على عَوراتِه لدليـلُ
وإنَّ عُظَمَاءَ الخلقِ لهم الذين يَزِنُونَ ألفاظهم، ويتخيَّرون أطايب الكلام وأحسنه في عباراتهم، ويلتزمون في أحوالهم جميعًا أن لاّ تبدُرَ منهم كلمةٌ قبيحةٌ أو لفظةٌ سائبةٌ مغلوطةٌ أو مكذوبةٌ، فيكونون بها سفهاءَ أو متطاولين على غيرهم؛ لأنَّ الكلمةَ يملكها الإنسان ما لم يتكلَّم بها، فإذا خرجت من فمه ملكته.
وإنَّ من الناس ـ عباد الله ـ من يعيشُ صفيقَ الوجِه، شَرِسَ الطبع، مُنْتِنَ الفَمِ، خبيثَ اللسانِ، لا يحجُزُه عن كلامِ السوءِ حاجزٌ، ولا يعرفُ للحُسْنِ سبيلاً، لسانُه مِهْذارٌ، وفمُه ثَرْثَارٌ، تَعوَّدَ على السِّبَابِ والشَّتْمِ واللَّعْنِ والفُحْشِ والبَذَاءِ، لا يسلمُ منه قريب ولا بعيد، ولا صغيرٌ ولا كبيرٌ، حتى إنَّ الكلمةَ الحَسَنَة لو صَدرت منه لعُدَّت من الغريبِ النادرِ في حياته. ولقد قال رسولُ الله : ((المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِه وَيَدِه)) رواه مسلم، وفي الأثر: "ما أُوتيَ رجلٌ شرًّا من فضلٍ في لسانٍ". قالت عائشةُ رضي الله عنها: استأذنَ رجلٌ على رسول الله فقال: ((بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ هُو))، فلَّما دخلَ انبسطَ إليه وألاَنَ له القولَ، فلّما خرجَ قلتُ: يا رسولَ الله، حينَ سمعتَ الرجلَ قلتَ كذا وكذا، ثم انطلقتَ في وجهه وانبسطتَ إليه! فقال: ((يَا عَائشَةُ، مَتَى عَهِدتِني فَاحِشًا؟! إنَّ مِن شَرِّ الناسِ عِنْدَ اللهِ تعالى منزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهَ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ)) رواه البخاري.
عباد الله، ومن آدابِ الكلامِ التي يجبُ على العاقل أن يَزمَّ بها لسانَه الاعتدال في المدح والذمِّ، فلا يتجاوزُ في المدح قدرَه، ولا يُسرف في الذَّمِ عن حدِّه، ولا يذكرُ كلمةً يُرضي بها بشرًا، ويُسخطُ بها ربَّ البشرِ سبحانه وتعالى. قال عبدُ الله بن مسعودٍ : (إنَّ الرَّجُلَ ليدخُلَ عَلى السُّلطانِ ومعَهُ دينُهُ، فيخرُجُ وَليْسَ معَه)، قيلَ: وكيفَ ذَلِكَ؟! قال: (يُرضيِه بِما يُسخِطُ اللهَ عزَّ وجلَّ). قال : ((إنَّ الرَّجُلَ ليَتَكلَمُ باِلكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللهِ، مَا يَظُنُّ أنَّها تَبْلُغُ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ بِهَا سَخَطَه إلى يَومِ القِيَامةِ)) رواه الترمذيُّ وهو صحيح. ولقد قال لرجلٍ مدحَ رجلاً آخرَ عنده: ((وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ)) قالها مرارًا، ثمَّ قال: ((إنْ كَانَ أحَدُكُمْ لا بُدَّ مَادِحًا أخَاهُ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلاَنًا وَلاَ أُزَكِّي عَلى اللهِ أحَدًا)) رواه البخاري ومسلم.
ومن أعظم آداب الكلام في الإسلام أن يُصَّدِّقَه الفعلُ؛ لأنَّ مخالفةَ القولِ للفعل نفاقٌ، واتِّفاقَهما إيمانٌ صادقٌ، واللهُ عزَّ وجلَّ يقول لعباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصفّ:2، 3]. فإيَّاكَ إِيَّاكَ ـ أَخِي المسلم ـ أن تقول ما لا تفعل، أو تخالف الناس إلى ما تنهاهم عنه وتأمرهم به.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفورُ الرحيمُ.
|