أما بعد: أيها المسلمون، إن صراع الحق مع الباطل صراع قديم، ولن يتوقف ما دام هناك حق وباطل في هذه الأرض، قال الله عز تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، وقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
صراع الحق مع الباطل تمتد جذوره منذ أن وجد البشر على وجه الأرض، فهو من سنن الله القدرية التي فطر الخلق عليها، ولأن الشرع الحكيم قام على الحق وقام ليعالج ما فطر عليه البشر من نوازع ورغبات ليقيمها على ما فيه صلاحها فقد شرع الله للمسلمين أن يَشْرَعُوا ويبدؤوا في إزالة الباطل واجتثاثه من جذوره، حتى لا تقوى أصوله، ولا تتجذر آثاره في حياة الناس والخلق، ولذلك شرع الله الجهاد لعباده، وكان شعار هذا الجهاد هو إقامة دين الله تعالى وإماتة الشرك: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].
أيها المسلمون، وقد كشف الله مسيرة الصراع بعبارات رائعة تحمل في طياتها طبيعة الحق وتكشف حقيقة الباطل، والمنهج القرآني هو منهج الحق والصواب، وضده منهج السحرة القدامى والجدد. منهج السحرة تزوير الواقع وإلباسه لبوس الخداع والتمويه، فالساحر هو الذي يقلب لك في نظرك العصا حية، ويزيف لك صورة الأشياء فلا تراها على ما هي عليه. وعلى مدار التاريخ الإنساني كان طواغيت البشر يستخدمون السحرة في تعبيد الناس لهم. والسحر حسب النص القرآني والحديث النبوي يطلق على أمرين:
الأمر الأول: هو الذي يغير صور الأشياء في أعين الناس دون تغييرٍ لحقيقتها، لأنه لا يستطيع أن يخلق إلا الله، فالعصا تتحول إلى أفعى في أعين الناس لا في حقيقتها، قال الله تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].
الأمر الثاني: هو الذي يغير الحقائق في أذهان الناس عن طريق الخداع البياني والقدرة اللفظية، قال : ((إن من البيان لسحرا)).
وكلا الأمرين يجتمعان في تزوير الحقائق بتمويهها في البصر أو في البصيرة.
والأمة اليوم تعاني من السحرة الجدد، الذين يلعبون في عقول الناس.
أيها المسلمون، إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة ودرء السحرة الجدد بدون الصراع مع الباطل وأهل الفساد والسحرة هؤلاء يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء الصراع والمدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر، يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل وإيثار الحياة الدنيا.
والصراع مع الباطل ومقاومة السحرة الجدد في عصرنا هذا يأخذ صورًا متعددة، فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله صورة من صور الصراع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صورة أخرى من صور الصراع، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين صراع، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة صراع، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه الصراعات؛ لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
واليوم لم يعد خافيًا على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة، وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة وأذنابهم المنافقين. فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم، كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لا يكاد يسلم بلد من بلدان المسلمين عن طريق السحرة الجدد، وهذا يوجب نصرتهم ما أمكن ذلك، قال الله تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]. هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقديًا واجتماعيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وثقافيًا وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين، وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير، فما الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
لا يختلف المسلمون أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجبًا على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكريًا وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها سواء باشرها الكفار بأنفسهم أو عن طريق إخوانهم من المنافقين من السحرة الجدد، فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجبًا عينيًا على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يُخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديمًا للدنيا الفانية على محبة الله عز وجل ورسوله والجهاد في سبيله تعالى، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله تعالى: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين [التوبة:24]. هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال فما الذي يمنع من أن تشمل أيضًا القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟!
أيها المسلمون، لم يعد خافيًا على أحد ما تطرحه وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله عز وجل أو من الناس، وذلك فيما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله عز وجل وحكم رسوله والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها.
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون والسحرة الجدد في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود الدلالة على أن سنة الله عز وجل في الابتلاء والتمحيص تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين، كما فضح الله عز وجل إخوانهم وسلفهم في غزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزوة تبوك التي أنزل الله عز وجل فيها سورة كاملة هي سورة التوبة، التي من أسمائها "الفاضحة"؛ لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحِكَم العظيمة والفوائد الجليلة لسُنَّة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم فإنهم يشكلون خطرًا وتضليلاً للأمة، أمّا إذا عُرفوا وفُضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان.
وقد عرف الناس ـ ولله الحمد ـ في الفترة الأخيرة عددًا من هؤلاء المنافقين الذين يكتبون في الصحف والمجلات، ففضحوا أنفسهم بكتاباتهم العفنة، وإن تمكنوا من خداع البعض من خلال سحر الكلام الذي يسودون به أعمدة الصحف اليومية، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182، 183]. وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات في كلا النوعين من الغزو: الغزو العسكري والغزو الفكري.
أما معسكر أهل الكفر فقد بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغًا عظيمًا، ونراهم يزدادون يومًا بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء، ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان الولايات المتحدة، حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: "من أشد منا قوة؟!". وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله عز وجل ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا؛ لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم دولة عاد وحلفاؤها هم الآن يعيشون سُنَّة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية، وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59].
وكذلك السحرة الجدد ممن يلوثون الصحف والمجلات بكتابات تمس أصول الدين وثوابته، هؤلاء أيضًا يستدرجون لحكمة هو يعلمها، وهذا الإمهال لهم ليس فيه إهمال.
ففي الإمهال للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، وكذلك في إمهال المنافقين والسحرة الجدد، حتى إذا آتت سنَّة الابتلاء أُكُلَها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفًا ممحصًا عندئذ تكون سُنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها، فيحق القول على الكافرين وعلى المنافقين، ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين، الذين يمكن الله لهم عز وجل في الأرض بعد محق الكافرين، قال الله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]. فذكر الله سبحانه التمحيص قبل المحق، ولو محق الله الكفار قبل تهيؤ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم؟!
إن الله عز وجل حكيم عليم، وما كان سبحانه ليحابي أحدًا في سننه، ولله عز وجل الحكمة في وضع السُّنَّتين ـ سنة الابتلاء وسنة الإملاء ـ في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|