ثم أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن العبد لا يحصد إلا ما زرع، ولا يجد إلا ما بذل، وكما قيل:
الخير زرع والفتى له حاصد وغاية المزروع أن يحصدا
نزل رجل وولده واديًا، انشغل الرجل بعمل له في الوادي، بينما أخد الولد يلهو بكلمات وأصوات، فوجئ الولد أن لهذه الأصوات صدًى يعود إليه، فظن أن هناك من يكلمه أو يرد عليه، فتوجه إليه متوجسًا، قال: من أنت؟ فعاد الصدى: من أنت؟ قال الولد: أفصح لي عن شخصك؟ فرد عليه: أفصح لي عن شخصك؟ فقال الولد غاضبًا: أنت رجل جبان وتخفى عني، فرجعت إليه العبارة نفسها، فقال الولد: إن صاحب الصوت يستهزئ به ويسخَر منه، فانفعل وخرج عن طوره، وبدأ يسبّ ويلعن، وكلّما سب أو لعن رجَعت عليه مثلها. جاء الوالد ووجد ولده منهارًا مضطربًا، فسأله عن السبب، فأخبره الخبر، فقال له: هوّن عليك يا بني، وأراد أن يعلّمه درسًا عمليًا، فصاح بأعلى صوته: أنت رجل طيّب، فرجع إليه الصوت: أنت رجل طيب، ثم قال: أحسن الله إليك، فكان الردّ: أحسن الله إليك، وكلّما قال كلامًا حسنًا كان الرد بمثله. سأل الولد والده بدهشة واستغراب: لماذا يتعامل معك بطريقة مؤدّبة ولا يسمعك إلا كلامًا حسنًا؟! فقال له الأب: يا بني، هذا الصوت الذي سمعته هو صدَى عملك، فلو أحسنتَ المنطِق لأحسن الردّ، ولكنك أسأت فكان الجزاء من جنس العمل.
معاشر المؤمنين، حديثي اليوم بعنوان: "صدى الإحسان". فالمسلم كلّما أحسن إلى الآخرين في هذه الدنيا أحسن الله إليه في الدنيا قبل الآخرة. فالإحسان كاسمه، والمعروف كرَسمه، والخير كوَسمه.
أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراتِه عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة.
فإذا طاف بك طائف من هم أو ألمّ بك غم فامنح غيرك معروفًا وأسدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة، أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعن منكوبًا، عد مريضًا، أطعم جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك.
إن الإحسان كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، شَربة ماء من بغيّ لكلب عقور أثمرت دخول جنة عرضها السموات والأرض؛ لأن صاحب الثواب غَفور شكور غنيّ حميد جواد كريم، فلا تحتقر ـ أخي المحسن ـ إحسانك وجودك وعطاءك مهما قل.
ذكر الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه: (وحي القلم) قصة عن الإمام أحمد بن مسكين من علماء القرن الثالث الهجري في البصرة، يقول عن نفسه: "إني امتحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، وانحسَمت مادتي وقحط منزلي، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلى رقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة، قال أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، جيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل العظيم بلفافة من القطن، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنه شهوة خفية من شهوات النفس، كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، فلم يسلم لي شيء، وهلكت عن حجتي وسمعت صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا فوضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وضعت دموع المرأة المسكينة، حيث بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجح، ولا تزال ترجح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا، فلا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، واتقوا النار ولو بشق تمرة.
مـن حبـة البـر اتخِذ مثل الندى يا من قبضت على الندى يمناك
هـي حبـة أعطتـك سبع سنابل لتجـود أنـت بحبة لسـواك
وكأنمـا الشـقّ الذي فِي وسطها لك قال: نصفي يَخص أخـاك
فيا باغي الخير، هلم إلى بستان الإحسان، وتشاغل بالمعروف عطاءً وضيافةً ومواساةً وإعانةً وخدمةً، وستجد السعادة طعمًا ولونًا وذوقًا.
أحسـن إلَى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وكن على الدهر معوانًا لذي أمـل يرجو نداك فإن الحر معـوان
مـن كـان للخيْر مناعًا فليس له على الْحقيقة إخوان وأخدان
ومـن جاد بالمال مال الناس قاطبة إليه والمـال للإنسان فتـان
والصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يبين لنا هذه القاعدة في الإحسان إلى الغير بقوله: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) رواه مسلم. القاعدة واضحة، والأمر بين، فالجزاء من جنس العمل.
أخي الحبيب، هل تريد أن تنفس كربتك ويزول همك؟ فرج كرباتٍ للمساكين. هل تريد التيسير على نفسك في الدنيا والآخرة؟ يسر على المعسرين مما رزقك الله. هل تريد أن يستر عليك ولا يفتضح أمرك؟ استر عبدًا من عباد الله. هل تريد أن تكسَى يوم تعرَى الخلائق؟ اكس مسلمًا. هل تريد أن تطعم حينما يجوع الناس يوم القيامة؟ أطعم جائعًا. هل تريد أن تسقى يوم أن يظمأ الناس في الموقف العظيم؟ أسق مؤمنًا، فالجزاء من جنس العمل.
واسمع ـ أخي الحبيب ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين قاعدة صدى الإحسان، قال رسول الله : ((أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله تعالى من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله تعالى يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم)) حديث حسنه الألباني. ما أعظمه من حديث، وما أروعها من سنة إلهية وقاعدة ربانية، جزاؤك من جنس عملك.
أخي الكريم، تخيل يوم يقوم الناس لرب العالمين وأنت منهم، وقد دنت الشمس من الرؤوس، وسبح الناس في بحار من العرق، وهم عراة حفاة غرل، وقد غشيهم من الهم والغم والكرب ما الله به عليم، وإذا بك تؤخذ من بين الخلائق، ويكسوك الله من خضر الجنة، فتسأل وتتعجب: لماذا فعل معك هذا؟! فيكون الجواب: لأنك ـ يا عبد الله ـ كسوت مسلمًا ثوبًا على عري في الدنيا، واليوم يوم الجزاء، والجزاء من جنس العمل.
وتخيل الناس في هذا الموقف الرهيب المهيب، وقد طال وقوفهم وبلغ منهم الجهد مبلغه، وانثنت أعناقهم من شدة الجوع، وكاد الظمأ أن يقضي عليهم، فإذا بك ـ أخي الكريم ـ تؤخذ على رؤوس الأشهاد، ويقدم لك الطعام، وأي طعام؟ ثمار الجنة، ويقدم لك الشراب، وأي شراب؟ الرحيق المختوم، فتسأل في دهشة: لماذا هذا؟! فيقال لك: لأنك أطعمت مسلمًا على جوع في الدنيا، ولأنك سقيت مسلمًا على ظمأ في الدنيا، فكان هذا جزاءك، والجزاء من جنس العمل.
يروي الأستاذ مصطفى أمين رحمه الله الكاتب المصري المعروف الذي كافح وناضل ضدّ المد الاشتراكي، يقول: "أدخلت السجن عام 1965م ـ قبل أربعين سنة ـ، وتنوعت وسائل التعذيب هناك، حتى منعت من الطعام والشراب، والحرمان من الطعام مؤلم ولكنه محتمَّل، أما الحرمان من الماء فإنه عذاب لا يحتمَل، ولاسيما في فصل الصيف ولمن هو مصاب بالسكر مثلي، اشتدّ بي العطش وأخذت أدور في الزنزانة كالمجنون، وكنت أهوى إلى الأرض أحيانًا، ألحسها لعلّ الحارس ترك نقطة ماء وهو ينظف البلاط، فاضطررت لشرب البول ـ أجلكم الله ـ حتى ما عاد هناك بول أشربه، وشعرت أني قد أشرفت على الهلاك، بينما أنا كذلك وفي ظلمة الليل وإذا بباب الزنزانة يفتح بهدوء، ويمتدّ إلي كأس ماء من شخص وضع يده على فمي وقال بصوت منخفض: لا تتكلم. لم أصدق ما رأيت، أحسست بسعادة لم أعرفها طول حياتي، إذ إنني رأيت عناية الله، اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة دون أن أعرفه، ولكني تعرفت على بعض ملامحه، وذات يوم رأيته، فقلت له: لماذا أقدمت على هذه المغامرة الخطيرة؟! لو ضبطوك كانوا سيقتلونك، قال: يا سيدي، أنت لا تعرفني، ولكني أعرفك جيدًا، ولن أنسى فضلك في شهر رمضان المبارك، وقبل تسع سنوات أرسل لك رجل فقير خطابًا يقول لك فيه: إنه فلاح بسيط ومكث سبع سنوات يقتصد من قوته وقوت أولاده حتى جمع مالاً واشترى به بقرة، وكانت هذه البقرة سببًا لرزق الأسرة كلها، وبعد أشهر ماتت البقرة، وأوشكَت الأسرة على الهلاك، وإذا رسول منك يطرق الباب ومعه بقرة صدقةً حسنة منكم يا سيدي، سكت الحارس المجهول قليلاً ثم قال: هذا الفلاّح الذي أرسلتم له البقرة هو أبي، وها قد أرسلني الله لك بعد تسع سنوات لأردّ إحسانك"، وصدق الله العظيم: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه". فالجزاء من جنس العمل، والإحسان صداه وأثره يكون للعبد في الدنيا قبل الآخرة.
معاشر المؤمنين، إن الموفَّق هو الذي يختاره الله ليكون صاحب قلب نابض ويد حانية وإحساس مرهف، يشعر بحاجة أخيه، ويفرح بأن الله يجري الخير على يديه، فهذا سيجد جزاء عمله في الدنيا والآخرة.
أورد الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله المدرس بالحرم النبوي الشريف في كتابه (ظلال عرش الرحمن) القصة التالية: "وقع لامرأة حادث حينما كانت تسير في ضواحي المدينة المنورة، فسقطت في حفرة متصلة بمجرى كبير للماء، فسحبها الماء تحت الأرض، وقدر الله لها أن تمسك بحجر في هذا المجرى، ومكثت عالقة بهذا الحجر تحت الأرض أربعة أيام، ومرّ رجل في هذا المكان فسمع صوت استغاثة ضعيف، فلما عرف مصدر الصوت، نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟! فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كلَّ يوم، وكان لهذه المرأة جيران من النسوة العجائز، وكانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها". والجزاء من جنس العمل.
((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))، إن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
|