قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
أيها المسلمون، إن سورة العصر جاءت في غاية الإيجاز والبيان؛ لتوضيح سعادة الإنسان أو شقاوته، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره.
وقد أقسم الله تعالى فيها بالعصر وهو الزمان الذي ينتهي فيه عمر الإنسان، وما فيه من أصناف العجائب والعبر الدالة على قدرة الله وحكمته. أقسم على أن الإنسان في خسارة ونقصان؛ لأنه يفضل العاجلة على الآجلة، وتغلب عليه الأهواء والشهوات، وقيل: هو قسم بصلاة العصر؛ لأنها أفضل الصلوات.
فكل جنس الإنسان في خسران، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال، بين الإعداد المادي والمعنوي، وترجموا الأقوال إلى أفعال وأعمال، واستبدلوا الباقيات الصالحات عوضا عن الشهوات العاجلة، وفضلوا نعيم الجنة الدائم على نعيم الدنيا الزائل، فهؤلاء هم الفائزون حقا؛ لأنهم باعوا الخسيس بالنفيس.
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ أي: أوصى بعضهم بعضا بالحق وهو الخير كله، من الإيمان والتصديق وعبادة الرحمن.
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أي: وتواصوا بالصبر على الشدائد والمصائب، وتواصوا على فعل الطاعات وترك المحرمات.
نعم أيها المؤمنون، لقد حكم الله تعالى بالخسران على جميع الناس إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ فإن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا كمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله وحق العباد.
إن سورة العصر تصف الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار، وتعطي وصفا دقيقا للأمة الإسلامية في آية واحدة، هي قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو لم ينزل الله سِوى هذه السورة لكفت الناس".
أيها المسلمون، إن الحقيقة الكبرى التي تقررها هذه السورة بمجموعها أنه على امتداد الزمان في جميع العصور ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، هو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه، وكل ما وراء ذلك ضياع خسران.
أيها المسلمون، وننظر اليوم ومن خلال هذا الدستور الذي يرسمه لنا القرآن الكريم، فيهولنا ويرعبنا ويخيفنا أن نرى الخُسر والخسران والدمار والهلاك يحيط بالبشرية في كل مكان بلا استثناء، يهولنا إعراض البشرية عن هذا الخير وهذا النور، والأمر الذي هو أشد هولا وخوفا هو إعراض الكثير من المسلمين عن هذا الدين وهم أصحاب دعوة الإسلام، كما أن البقاع التي انبعث منها هذا الخير وهذا النور أوّلَ مرة تترك راية الإسلام وراية الإيمان وراية العدل، لتتعلق برايات عنصرية كالقومية، ولتتمسك بمبادئ وشرائع غريبة عن الإسلام كالاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية والتي معناها حكم الشعب للشعب، والصحيح أن الحاكمية لله وحده، علما بأن البشرية جمعاء ـ وبخاصة المسلمين ـ لم ينالوا خيرا ولا السعادة في التاريخ كله وقت اتباعهم لها، بل نالت ونالوا الظلم والطغيان والشتات والويل والدمار.
ومن الحقائق التي لا يستطيع عاقل أو منصف إنكارها أنه لم يكن لهذه الشعوب ولهذه الأمم ذكر في الأرض ولا في السماء، حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية التي تنتسب إلى الله تعالى، ولا تنتسب إلى الغرب أو الشرق. حقا إنها راية الإسلام، راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، إنها الراية التي انتصر العرب تحتها وقادوا البشرية جمعاء قيادة صالحة رشيدة واعية، فأصبحوا سادة بعد أن كانوا مسودين، وحكاما بعد أن كانوا محكومين، وأعزاء بعد أن كانوا أذلاء، وأقوياء بعد أن كانوا مستضعفين.
نعم أيها المسلمون، لقد ظهر المسلمون وتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة البشرية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سير سريعا متزنا عادلا. وقد يسأل سائل ويقول: ما سبب ذلك؟ ويأتي الجواب ليقول: إن السبب يرجع إلى وجود صفات ومميزات فيهم تؤهلهم لقيادة الأمم، منها على سبيل المثال لا الحصر أن المسلمين أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ربانية، فلا يقنّنون ولا يشرّعون من عند أنفسهم؛ لأن في ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، ولا يتخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء كما يقال؛ لأن الله جل جلاله جعل لهم نورا يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة ودستورا يحكمون بهما الناس، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
إن المسلمين الأوائل لم يتولوا القيادة والحكم بغير تربية خلقية وتزكية نفس وتأهيل راشد، بخلاف الأمم والأفراد ورجال الحكومات والدول في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية سيد البشر محمد بن عبد الله الذي تخلّق بأخلاق القرآن، والذي مدحه رب العزة بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فقد كان الحبيب محمد يؤدب أصحابه ويزكيهم، ويأخذهم بالزهد في الحياة الدنيا، وبالورع والتقوى والعفة والأمانة والعدل، والإيثار وخشية الله تعالى في السر والعلن، وكان يأخذهم بعدم الاستشراف والتطلع للإمارة والمناصب والحرص عليها، وكان يقول لهم: ((إنا ـ والله ـ لا نولي هذا العمل أحدًا سأله، أو أحدًا حرص عليه)) متفق عليه، ولا يزال يقرع سمعهم قول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والكراسي والمناصب، فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة، كما أنهم لم يزكوا أنفسهم وينشروا الدعاية لها وينفقوا الأموال سعيا وراءها، ولم يقطعوا الوعود للناس على أنفسهم، ولم يبنوا لهم قصورا في الهواء، ولم يملوا الشوارع باليافطات ويغطّوا الجدران بالملصقات المزركشة وبالدعايات المبالَغ فيها، بل كانوا يضعون نصب أعينهم قول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى [النجم:32]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]. وقول الرسول : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا أؤتمن خان)) رواه البخاري.
أيها المؤمنون، والأهم من كل ذلك أن المسلمين الأوائل لم يتنازلوا عن شيء من عقيدتهم أو دينهم أو مبادئهم أو أرضهم من أجل الحصول على الإمارة. لا أيها المسلمون، لا أيها المؤمنون، لا يا أتباع محمد، لا وألف، لا لم يكونوا كذلك، بل كانوا إذا تولوا شيئًا من أمور الناس لم يعدوه مغنما، بل عدوه أمانة في أعناقهم وامتحانا لهم من الله، وكانوا على علم بأنهم موقوفون عند ربهم ومسؤولون عن الصغير والكبير، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، وتذكروا دائمًا قول الله تعالى: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165].
أيها المؤمنون، هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي وضعت سورة العصر قواعده ومبادئه ومواده، ومن هنا كان الرجلان من أصحاب الرسول إن التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة ثم يسلم أحدهما على الآخر.
|