أما بعد: اتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا قول رسول الله : ((تأتي على أمتي أيامٌ القابضُ فيها على دينه كالقابض على جمر، وتأتي على أمتي أيام يقف الحيّ على قبر الميت ويقول له: يا ليتني مكانك، وتأتي على أمتي أيام يحبون خمسا وينسون خمسا، يحبون المخلوق وينسون الخالق، يحبون المال وينسون الحساب، يحبون القصور وينسون القبور، ويحبون الدنيا وينسون الآخرة، ويحبون الذنوب وينسون التوبة)).
صدقت يا سيدي يا رسول الله، وكأنك تعيش بين ظهرانينا. صدقت يا من كنت تستشفّ الحجب، فنحن في هذه الأيام كالقابض على جمر النار، ونحن في هذه الأيام يقف أحدنا على قبر الميت فيحسد الميت على الموت.
عباد الله، الصحابي الجليل ثوبان خادم الرسول دخل عليه الرسول ذات يوم فوجده يبكي وتسيل الدموع بغزارة، فسأله: ((ما يبكيك يا ثوبان؟)) أتدرون ممَّ يبكي يا عباد الله؟! إنه لا يبكي لأنّ به وجعًا، ولا يبكي لأن ماله قليل، لا يبكي على منصب من مناصبها الفانية، إذًا فما يبكيك يا ثوبان؟! اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ الإجابة، وفي الإجابة عجب، يقول: يا رسول الله، أبكي لأنك إذا غبتَ عني اشتقتُ إليك، فإذا تذكرتُ الآخرة وأنك ستكون في أعلى درجات الجنة ولن أراك فيها ازداد بكائي شوقًا إليك يا حبيب الله. إنه الشوق وأيّ شوق؟! شوق الحبيب إلى الحبيب، إنه الحبيب إنه القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، ليس لنا أسوة حسنة سواه.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ كيف اشتاقت النفوس لرؤياه، وكيف ابتهجت الأرواح بنور محياه، كان حبيب الفقراء، وكان جليس المساكين، ما استراح إلا عندما يجلس مع الفقراء، وما اطمئنّ إلا عندما يخالط المساكين.
عباد الله، هذا الصحابي الجليل ثوبان تذكّر أن هناك آخرة، وأن المصطفى سينال الفردوس الأعلى وسيصيب أعلى درجات الجنان، وأن الفرق سيكون بعيدًا وأنّ البون سيكون شاسعًا، فازداد بكاؤه شوقًا لرسول الله، فبماذا أجاب الرسول ثوبان؟! نزل الأمين جبريل عليه السلام بقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
عباد الله، نحن هنا في فلسطين أرض الرباط، وفي بيت المقدس جوهرة ودرّة الأرض المباركة، إذا عدنا إلى الله وسرنا على منهج رسول الله واستقامت نفوسنا فسوف ننعم بحياة طيبة، وسوف تزول الغمة، وسوف يزول الاحتلال، وتعود البسمة على وجوه الأطفال والشيوخ والنساء، لن يبقى في سجون الاحتلال أحد من الشرفاء، أسرانا يعيشون حياة صعبة وأمتنا لاهية، أسرانا يعيشون مرارة العيش وأمتنا نائمة، اللهم فرج كربهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وأطلق سراحهم، وتولّ أمرهم، وردهم إلينا سالمين غانمين مطمئنين يا رب العالمين.
لماذا تعاملون أسرانا بهذه المعاملة؟! تعلّموا من الإسلام كيفية المعاملة، وصدق الشاعر بقوله:
ملكنا فكان العفو منا سجية فلمـا ملكتم سـال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا على الأسرى نَمنّ ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل وعـاء بالذي فيـه يرشح
عباد الله، نحن ـ وبحمد الله تعالى ـ أمة إسلامية، ولن نرضى بالظلم، فديننا يحرّم علينا أن نظلم، وبنفس الوقت فلا نقبل بالمذلة والمهانة مهما كلّف الثمن، أعداء الإسلام في هذه الأيام يستحلّون دماء المسلمين، ويستبيحون أعراضهم، لماذا أصبحنا لقمة سائغة على موائد اللئام؟! المسلمون يحارَبون في كل مكان، وحكام الأمة قبِلوا بالذل والهوان؛ تركوا أطفال الأمة يحملون أرواحهم على أكفِّهم يقتَلون بين الحين والحين وهم يلهثون وراء سلام الشجعان أو سلام السّراب أو سراب السلام، السلام الذي يوقّع عليه رؤساؤهم وهم يقولون: نحن قادمون من القدس العاصمة التاريخية للشعب اليهودي.
عباد الله، أين أمتنا اليوم من السير على المنهج السليم الذي يؤدي إلى النصر؟! أين أمتنا من مواقف العلماء الأجلاء الذين عملوا لنهضة الأمة وعزتها؟! لماذا أصبحنا اليوم نتصارع على السلطة والحكم ونسينا كل شيء؟! نسينا الاحتلال والقتل والتشريد والتعذيب، لماذا تفرقت أمتنا وخاصة هنا في أرضنا المباركة؟! ألم نتعلم طوال هذا الزمن الطويل من الاحتلال أن الفرقة والاقتتال لن يؤدّوا إلا إلى الضعف والانحلال والهزيمة؟! فكفانا مضيعة للوقت، استيقظوا يا أمة محمد ، استيقظوا يا أمة الإسلام، أهل الكفر يخططون ونحن غافلون.
يـا من يرى ما فِي الضمير ويسمع أنت الْمُعَدّ لكل مـا يُتَوقَّـع
يـا من يرجـى للشدائـد كلهـا يـا من إليه المشتكى والمفزع
يـا من خزائن رزقه فِي قول كـن امنن فإن الخير عندك أجْمـع
مـا لِي سوى فقري إليك وسيـلة فبالافتقـار إليك فقري أدفع
مـا لِي سوى قرعي لبابك حيـلة فلئن رددت فأيّ باب أقرع؟!
من ذا الذي أدعـو وأهتف باسْمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حـاشا لِجودك أن تقنط عاصيًـا الفضل أجزل والمواهب أوسع
عباد الله، نحن في عصر كثرت فيه الفتن التي تذر الحليم حيران، وليس لنا إلا مخرج واحد هو الرجوع إلى الإسلام، إلى القرآن دستور هذه الأمة ومنهاجها الرباني. علينا أن نعود إليه ونتّبع هداه، أن نعمل بما فيه وأن نحكم بما أنزل الله فيه.
عباد الله، نزل القرآن ليحكم الأحياء، لا ليقرأ على الأموات، القرآن نزل ليطبق في المحاكم، لا ليتلى في المآتم، لنتدبر آياته ونحسن فقهه وتطبيقه ونجعله خلُقا لنا، كما وصِف النبي بأن خلقه القرآن، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
عباد الله، إن رجلا أجنبيا درس الإسلام فأعجب به وأعجب بتعاليمه، فقال كلمة يجب أن نحفظها ونرويها؛ لأنها تقطع القلوب، ماذا قال؟ قال: "ما أعظمه من دين لو كان له رجال". دين عظيم ولكنه بحاجة إلى رجال عظماء، دين قوي ولكنه بحاجة إلى رجال أقوياء.
فيا أيها المسلمون، لا عزة لنا إلا بالإسلام، ولا نصر لنا إلا بالإسلام، ولا رفعة لنا إلا بقيام دولة الإسلام. فاعملوا ـ يا عباد الله ـ جاهدين لإقامتها، والله لن تقوم لكم قائمة إلا بها، لن يعيش المسلمون حياة طيبة إلا في ظل دولة الإسلام.
|