أمّا بعد: فيا أيّها المسلون، لقد سمعتم فيما مضى شيئا من صفات النبيّ وشمائله الخِلقِيّة والجسديّة، وأمّا عن صفاته الخلُقية فلقد كان أكمل الناس خُلُقا، وكيف لا يكون هذا وقد زكى الله عقله فقال: النَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1، 2]، وزكى الله لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]، وزكى الله جليسه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5، 6]، وزكاه ربه كلَّه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، أي: إنك ـ يا محمد ـ على دين وأدب عظيم.
روى مسلم وغيره عن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقال: نعم، فقالت: كان خلقه القرآن. ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجيّة له وخلُقا تطبَّعه وترك طبعَه الجبلّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكلّ خلق جميل.
عباد الله، ففي الكرم كان رسول الله أكرم الناس، يعطي عطاء لا تبلغه الملوك، سأله رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قومي، أسلموا؛ فإن محمّدا يعطي عطاءَ من لا يخشى فاقة. وقال جابر رضي الله عنه: ما سئِل رسول الله شيئا فقال: لا.
ولقد تعلّق الأعراب به يسألونه أن يقسم بينهم الغنائم في مرجعه من حنين، فقال : ((لو كان لي عدد هذه العضاة نعما ـ أي: إبلا ـ لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا)).
ولقد كان يؤثر على نفسه وعلى أهل بيته، ويعطي العطاء وهو إليه محتاج، ويمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار. عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: والله يا ابن أخي، إن كنا ننظر الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله نار، قلت: يا خاله، فما كان طعامكم؟! وما كان يعيشكم؟! قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار، وكانت لهم منايح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا . متفق عليه.
الله أكبر! هذا هو بيت رسولنا وإمامنا وقدوتنا، أين قادة ورؤساء الديانات الباطلة ورؤوس الناس وقادات الجماعات الضالّة والفصائل المنحلّة والمذاهب الهدّامة ومدّعو الديمقراطيّة الذين يتشدّقون بالكلام ويغرّرون الناس، والله يعلم أنهم سلبوا الناس أموالهم وحرياتهم وكراماتهم؛ ليعيشوا في النعيم الزائل ويشيّدوا عالي العمارات ويتمتّعوا بعالي المقامات وسائر الشهوات.
عباد الله، على مستوى المسلمين وذرونا من الكفار والكفر، فليس بعد الكفر ذنب، حدثني من أثق به أن هناك رجالا في بلد من بلدان المسلمين تزعّموا جماعة، ويا للأسف فكلّ يوم ينشقّ من المسلمين جماعة تضلّل عامّة المسلمين وتزعم أن الإسلام فيها، والمسلمون جماعة واحدة، ربّهم واحد، ورسولهم واحد، وقِبلتهم واحدة، ودينهم واحد. قال: وكان زعماء هذه الجماعة يخطبون بالنّاس، ويجمعونهم على غير كتاب الله وسنة رسوله، حتى صاروا حزبًا وحَربًا؛ حزبًا من دون الناس، وحربا على غيرهم، عامة أتباعهم فقراء عالة، قال: وهم شيّدوا القصور وجمعوا الأموال من الناس، فسكنوا القصور ونسوا القبور، وأخذوا الأموال ونسوا الوبال.
اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اجمع شتات المسلمين وارفع ما حل بهم، اللهم اجمع المسلمين على كتابك وسنة رسوله وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجمع كلمتنا ووحد صفنا وقوّ شوكتنا وأظهرنا على عدونا، واجعل اللهم بلدنا آمنا مطمئنا رخاء وسائر بلاد المسلمين، آمين آمين آمين.
عباد الله، وفي الشجاعة كان أشجع الناس وأمضاهم عزما وإقداما، كان الناس يفرّون وهو ثابت، قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لما التقى المسلون والكفار ـ يعني في حنين ـ وولى المسلون مدبرين طفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار، وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع، وكان يقول حينئذ: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد الطلب)). وقال على رضي الله عنه: كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتّقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب للعدو منه. وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت ـ أي: ناحيته ـ فتلقّاهم رسول الله قد سبَقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحه لا سرج عليها والسيف في عنقه وهو يقول: ((لن تراعوا)).
ومع هذه الشجاعة العظيمة والبأس القوي فقد كان لطيفًا رحيما، فلم يكن فاحشًا ولا متفحّشا ولا صخّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. قال أنس رضي الله عنه: خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي: أف قطّ، ولا لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويضعهم في حجره، وربما بال الصبيّ في حجره فلا يعنف.
وكان يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة مخافة أن تفتن أمه.
وكان يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وجاء الحسن والحسين ريحانتي رسول الله وسبطيه، وجاءا والرّسل يخطب الناس، فجعلا يمشيان ويعثران، فنزل النبي من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)).
أما كلامه فكان كما قالت أم المؤمنين عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه. متفق عليه. قال أنس: كان رسول الله يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه. رواه البخاري والترمذي.
وأما حياؤه فقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها.
وقال الحسين بن علي رضي الله عنهما: سألت أبي عن سيرة النبي في جلسائه فقال: كان دائم البشر سهل الخلق ليّنَ الجانب، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيِس راجيه، لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، وكان يصبر على جفوة الغريب في منطقه ومسألته، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوّزه بانتهاء أو قيام.
وكان أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة، خيّره الله بين أن يكون ملكا نبيّا أو عبدا نبيّا فاختار أن يكون عبدا نبيّا.
أيها المسلمون، هذه درر وقطوف من أخلاق المصطفى ، فاتخذوها نبراسا لكم، واتبعوه لعلكم تهتدون.
|