.

اليوم م الموافق ‏29/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الوصية الجامعة

4571

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة, خصال الإيمان

صالح بن محمد آل طالب

مكة المكرمة

9/10/1426

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أنواع السائرين إلى الله تعالى. 2- حقيقة الولاية. 3- دلالة الله تعالى أولياءه لما فيه حفظهم. 4- وصية النبي لابن عباس. 5- ما يجب على العبد حفظه من أمور الدين. 6- حفظ الله للعبد. 7- تفريج الله عن أوليائه. 8- الإيمان بالقضاء والقدر.

الخطبة الأولى

أما بعد: فوصيّة الله للأوّلين والآخرين تقواه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [النبأ:31-36].

وبعد: أيّها المسلمون، السّائِرون إلى الله مِنهم السابقُ ومنهم المقتصِد، هِمَمٌ متفاوِتَة ودَرَجات متعالِيَة، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [اللّيل:4]، وأَعظمُهم منزلةً وأسبقهم فوزًا وأحظُّهم برعاية مولاه هَو من كان لله وليًّا وعنه رضيًّا، فيا سَعادةَ من كان الله به حفيًّا.

الوِلاية ـ أيّها المسلِمون ـ لَيسَت ادِّعاءً وتظاهرًا ولا استكانةً وتملُّقًا، إنها حَقيقة يوفِّق الله لها من شاءَ مِن عباده إذا سلَكوا سبيلَ رضاه، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

ولما كانتِ الغايةُ التي خُلق لها الإنسان هي عبادَة الله وتوحيده وطاعَته وتمجيده الذي جعَل الدنيا دارَ ابتلاء وامتحان وجَعَل مِن سنّة الحياة كثرةَ العوارض والآفات والأعداءِ من الشياطين والشّهوات فإنَّ الله تعالى لم يسلِم عبادَه ولم يخذُل أولياءه، بل وعد سبحانَه بالحفظِ والرّعاية لأصفيائِه والنّصر والتّمكين لأوليائِه إذا هم قاموا بما أمَر واجتنبوا ما نهى عنه وزَجر وتوكَّلوا عليه حقَّ التوكّل وحفظوا دينَهم فلم يصرفهم عنه شهوةُ دنيا ولا طغيان فاجِر، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:62-64].

وقد أرشَدَ النّبيّ في جوامِعِ كَلِمِه إلى طريقِ الولايةِ وما يكون به الحفظُ والصّيانة في حديثٍ قال عنه بعض العلماء: "تدَّبرتُ هذا الحديثَ فأدهشني وكدتُ أطيش، فوا أسَفا من الجهل به وقِلّة التفهُّم لمعناه"، فعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: كنتُ خلفَ النبيِّ فقال: ((يا غلام، إني أعلِّمُك كلماتٍ: احفظِ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلام وجفّت الصحف)) رواه الترمذي بسند صحيح[1]، وفي رواية عند الإمام أحمد: ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفك في الشدّة، واعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصرَ مع الصبر، وأنّ الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يُسرًا))[2].

أيّها المسلمون، تضمَّن هذا الحديث وصايَا عظيمة وقواعدَ كلّية من أهمِّ أمور الدين، والعملُ به تحقيقٌ للتوحيد وامتثال للأمر والنهي وكفايةٌ في أمر الدنيا والآخرة.

وقولُ النبي : ((احفَظِ الله)) أي: احفَظ حدودَه وحقوقه وأوامره ونواهيَه، فمن فعل ذلك استحقَّ حفظَ الله له وكان من الموعودِين بالجنّة كما قال الحقّ سبحانه: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].

ومِن أعظمِ ما يجِب حفظُه والعناية به إخلاصُ العبادةِ لله تعالى وحِفظ النفسِ مِن الوقوع في الشّركِ بشتَّى أنواعِه، فمَن أشرك بالله تعالى فقَد أضاع جهدَه وأحبط عمَلَه، قال الحقّ سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. والمسلِمُ العاقل هو الذي يتفقَّد نفسَه وعمله لئلاّ يقع في شيءٍ من محبِطات الأعمال.

ومِن أعظم ما تجِب المحافظة عليه من أوامرِ الله الصلاةُ التي أمَرَ الله بها بقولِه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وجعل الفوزَ والفلاح للمؤمنين الذين هم على صلَواتهم يحافِظون، وجعل مفتاحَ الصلاةِ الطهارةَ التي هي كفّارة للذنوب ماحِيَة للخطايا، وقد ثبت في الحديثِ الصحيح أنّ النبيَّ قال: ((لا يحافِظ على الوضوء إلا مؤمِن)) رواه ابن ماجه في سننه ومالك في الموطأ بسند صحيح[3].

ومما أمر الله تعالى بحِفظه الجوارحُ، خصوصًا الفم والفرج، والتي هي أكثر ما يدخِل الناسَ النار، وقد قال الحقّ سبحانه في مدحِ المؤمنين المفلِحين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، وقالَ: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، بل قد ضَمِن النبيّ الجنّةَ لمن حفِظ ما بين لحيَيه وما بين رجليه؛ وذلك أنّ الفمَ هو طريق أكلِ الحرام، وفيه اللّسان وهو طريقٌ لقولِ الحرَام، والفَرج قد تقع بسبَبه شهوةُ الحرام، فأكثر المعاصِي من هذه الأمور.

عبادَ الله، الجزاءُ مِن جنس العمل، وقد قال سبحانَه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وقَال: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]، وكذلك من حفِظ حدودَ الله وحقوقَه والتزم أمرَه واجتنب نهيَه فإنّ الله تعالى يحفَظه ويرعاه ويكلَؤه، والحِفظُ عامّ في أمور الدنيا والآخرة، فمنها أنَّ الله تعالى يحفظ له مصالحَ دنياه، فيحفَظه في بدنِه وولده وأهلِه وماله، قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، أي: أنَّ هذا الحفظَ مِن أمر الله، والمعقِّباتُ الحافِظة هي الملائكة كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما[4]، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((معقِّباتٌ لا يخيب قائِلهن أو فاعلهنّ دُبرَ كلّ صلاةٍ مكتوبة: ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاثٌ وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة))[5]، وفي صحيح مسلم أيضًا أنّ النبي قال: ((من صلّى صلاةَ الصبح فهو في ذِمّة الله، فلا يطلبنّكم الله من ذمّتِه بشيء))[6]، بل إنَّ الحفظَ يسري إلى الذريّة كما حفِظ الله للغلامين كنزَهما فقال سبحانه: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، وقال عمَرُ بن عبد العزيز: "ما مِن مؤمنٍ يموت إلاّ حفِظه الله في عَقِبِه وعقِب عقبه"[7]، وقال ابن المنكدر: "إنّ الله ليحفظ بالرجل الصّالح ولده وولدَ ولدِه والدّوَيرات التي حولَه، فما يزالون في حفظ من الله وسِتر"[8].

وعَكس هذا من ضيَّعَ أمرَ الله أضاعَه الله، فضاع بين خلقِه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممّن كان يرجو نفعَه من أهله وغيرِهم.

وكما يحفظ الله تعالى عبدَه من شرِّ طوارِقِ الليلِ والنهار ومن الدوابِّ والهوام والإنس والجانّ فإنّ الله تعالى يحفظه أيضًا ويعصِمه في دينه وإيمانه، فيحفَظه من الشّبُهات المضِلّة والشهواتِ المحرَّمة، ويحفَظ عليه دينَه، فيتوفَّاه على الإيمان، وقد قال الله عزّ وجلّ عن يوسفَ عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وذلك أنّه حفِظ أمرَ الله في الغيبِ، وقال: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23] في موطنٍ لا يراه فيه إلاّ الله، وهرب من المعصيةِ، ودعا الله أن يصرفَ عنه كيدَ النّسوة، كلُّ ذلك مما استحقَّ به أن يدفَعَ الله عنه البلاءَ ويصرِفَ عنه السوءَ والفحشاء، ثمّ آتاه الله الملكَ.

وقد يحفَظ الله العبدَ بأنواعٍ من الحفظ قد لا يشعر بها، وقد يكون لها كارِهًا. أما من ضيَّع فإنّه لا يُحفَظ، وقد قال الحسن وقد ذكر أهلَ المعاصي: "هانوا عليه فعَصَوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم"[9].

وفي قولِ النبي : ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفك في الشدّة)) حثٌّ على تقوَى الله وحِفظ حدوده في حال الرّخاء والصحّة والعافية والأمن، حتى إذا جاءَتِ الشدة وجدَ لُطفَ الله ورحمته وحفظَه ونصرَه أقربَ ما يكون.

ولما اشتدَّ الكرب بيونسَ عليه السلام في بطنِ الحوت نادَى في الظلمات أن لا إلهَ إلا أنتَ سبحانك إني كنتُ من الظالمين، فاستجاب الله دعاءَه ونجّاه من كربِه وأنقذَه من غمِّه، قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]. ولما ذكر الله في سورةِ الأنبياء إجابتَه أيوبَ حين مسَّه الضرّ وذا النون وزكريّا قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وعند الترمذيّ بسندٍ حسن أنّ النبيَّ قال: ((من سرَّه أن يستجيبَ الله له عند الشدائد فليكثِرِ الدّعاءَ في الرّخاءِ))[10]، ومِصداقُ ذلك من كتاب ربِّنا قوله سبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

فيا من تكالَبَت عليه الخطوبُ وتكاثَرَت عليه الكروب، أين أنت من علاّم الغيوب؟! إذا سألتَ فاسأَلِ الله، وإذا استَعَنت فاستعن بالله، فهو الذي يعطي ويمنَع، ويخفِض ويرفع، ويضرّ وينفع، ما النّاس إلا عبيده، والأمر أمرُه، فكيف يُرجَى غيره؟! أم كيف يؤمَّل سواه؟! وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]. من الذي نجَّى نبيَّنا محمّدًا وصاحبَه في الغار؟! من الذي نجَّى إبراهيم الخليل حين قُذِف في النار؟! من الذي فلَق البحرَ لموسى؟! من الذي رفَعَ عيسى؟! من المرَجَّى لكلِّ كربَة؟! من المؤمَّل لكلّ نازلة؟! إنّه الله القدير.

أيها المسلمون، وفي زمنٍ تكالَب فيه الأعداء على المسلِمين وتداعَوا عليهم كما تداعَى الأكلةُ على قصعَتِها لسنا نخشى ـ والله ـ من عدوِّنا بقدر ما نخشَى من ذنوبنا، فمن كان الله معَه فمن يخاف؟! ومن كان عَليه فمن يرجو؟!

إنَّ المتحتِّمَ علينا أن نحفظَ الله في أنفسنا وفي ديننا، وأن نتنادَى بالعودة إليه، فإن صدقنا مع الله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.



[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2516)، وهو عند أحمد أيضا (4/409-410) [2669]، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).

[2] مسند أحمد (5/18-19) [2803]، وأخرجها أيضا الحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).

[3] سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء (277) عن ثوبان رضي الله عنه، موطأ مالك: كتاب الطهارة، باب: جامع الوضوء بلاغا، وأخرجه أيضا أحمد (5/276، 280، 282)، والدارمي في كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الطهور (655، 656)، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (448، 449)، والمنذري في الترغيب (1/97). وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنهما، وقد صححه الألباني في إرواء الغليل (412).

[4] انظر: تفسير الطبري (7/350)، وعزاه أيضا السيوطي في الدر (4/612) لابن المنذر وابن أبي حاتم.

[5] صحيح مسلم: كتاب المساجد (596) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.

[6] صحيح مسلم: كتاب المساجد (657) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.

[7] انظر: جامع العلوم والحكم (1/467).

[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (330)، والحميدي (373)، وأبو نعيم (3/148). وانظر: جامع العلوم والحكم (1/467).

[9] انظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص38)، وجامع العلوم والحكم (1/470).

[10] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3382) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو يعلى (6396، 6397)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وصححه الحاكم (1997)، وهو في السلسلة الصحيحة (593).

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدَ من لم يزل لفضله ساعيًا ولعفوه راجيًا، أحمده وهو الرحيم سبحانه، يغفر ذنبًا، ويكشف كربًا، ويجيب داعيًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فإنّ مِِن أركان الإيمان الإيمانُ بالقضاءِ والقدر، وأنّه لا يقع في هذا الكونِ حادثٌ صغيرٌ ولا كبير إلا بقَدَر سابقٍ سطَّره القلم في اللوحِ المحفوظ بأمرِ الله تعالى وعِلمه وتقديره قبلَ خلقِ السماوات والأرض، فلا يكون شيءٌ إلاّ بمقتضى ذلك، علِمَ العبد أو جهل، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].

ومِن هنا كان كمالُ توحيدِ المؤمنين، فأخبتت قلوبهم لأحكامِ القضاء، وهان عليهم الصّبر على البلاء والشّكرُ في السراء، وفوّضوا أمرَهم إلى الله، وسألوه المغفرة والرحمة واللطفَ والنّصرة، ولهذا خصَّ النبيّ ابنَ عبّاس رضي الله عنهما كما عمَّ الأمّةَ بهذه الوصيّة الجامعة، وهي الإيمانُ بالقضاء والصّبرُ على البلاءِ واليَقين على ربِّ الأرض والسّماء.

وعندَ استحضار هذه المعاني تطمئنّ النفوس الرضِيّة وتعيش حياةً هنيّة، بل إن جاءها الموتُ ماتت مِيتة سويّة، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاّ للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبَر فكان خيرًا له))[1].

ثم خُتِم الحديث بقولِه : ((واعلم أنَّ في الصبر على ما تكرَه خيرًا كثيرا، وأنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)). يَا لله، يا لَها من كلماتٍ عظيمة لمن عقَلها والتزَمها، ومِصداقُ ذلك في كتابِ الله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6]، ولن يغلِبَ عسرٌ يُسرَين، ولكن أين المؤمِنون الموقِنون؟! وكم في أعطافِ البلايا من ألطافٍ، ولقد رأى الناس في لطفِ الله وتيسيره عَجبًا.

وتأمَّل في لطيف المعنى في هذه الآية: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، أي: عندَ المصيبةِ إذا استحضر المبتَلَى أن المصيبةَ من عند الله هُدِيَ للصبر والرضا والثباتِ على الإيمان، فهدَى الله قلبَه لكلِّ خير، قال القرطبي: "وقرأ عكرمةُ: يهدَأ قلبُه، وقرأ مالك بن دينار بتخفيفِ الهمزة: يَهدَى قلبُه"[2]، فهل سمِعَ بهذا المبتلَون الصابرون؟! وقد قال بعض السلف: "الحياةُ الطيّبة هي الرّضا والقناعة"، وقال ابن زَيد: "الرّضا بابُ الله الأعظَم وجَنّة الدّنيا ومُستَراح العابدين"[3].

ومِن لطائِف أسرارِ اقتران الفرَج بالكرب واليسر بالعسرِ أنّ الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهى حصَل للعَبد اليأسُ من كشفِه من جِهَة المخلوقين، [فتعَلَّق] قلبُه باللهِ وحدَه وانقَطَع الرّجاءُ إلاّ إليه، وهذا هو حقيقةُ التوكّل على الله، وهو مِن أعظم الأسباب التي تُطلَب بها الحوائِج، فإنَّ الله يكفِي من توكَّل عليه كما قال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

هذا وصلّوا وسلّموا على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله النبيّ الأمّيّ.

اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...



[1] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999) عن صهيب رضي الله عنه.

[2] الجامع لأحكام القرآن (18/124).

[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/156).

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً