أما بعد: فيا أيها المسلمون، تحدثنا في الخطبة الماضية عن عداوة الشيطان للإنسان من بداية ولادته إلى نهاية عمره، وذكرنا غفلة المسلمين عن هذه العداوة، مما تسبّب في وقوعهم في كثير من المزالق والمصائب والذنوب، ثم ذكرنا أن من أسباب عداوة إبليس للإنسان أن إبليس يرى أن الإنسان هو السبب الرئيس في إخراجه من الجنة وفقده لمكانته كمَلَك في الملأ الأعلى، ولذلك يسعى الشيطان جاهدًا في الانتقام من هذا الإنسان؛ كي يكون رفيقًا معه في جهنم والعياذ بالله، ثم ذكرنا بعض أساليب الشيطان في إغواء الإنسان.
وسنواصل في هذه الخطبة ـ بإذن الله ـ ذكر أساليب أخرى للشيطان في إغواء بني آدم حتى نحذر ونستعد ونقاوم كيد الشيطان بنا، وحتى لا يستدرجنا الشيطان فيهوي بنا في مهالك الرَّدَى والخسران. فأقول وبالله التوفيق:
من أساليب الشيطان في إغواء الإنسان النَّزْغ، والنَّزْغ هو الكلام الذي يُفسِد العلاقة بين الناس، فالنَّزْغ وسيلة شيطانية يستخدمها الشيطان في خطته الماكرة لإضلال الإنسان وغوايته، ولقد أخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه عن نَزْغ الشيطان وحذّرنا منه، فقال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
فالشيطان يسعى إلى التَّحرِيش وإثارة العداوة والبغضاء بين الناس، وشحن النفوس بالغِلّ والغضب، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه: استبّ رجلان قرب النبي ، فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقال الرجل: أمجنون تراني؟! فتلا رسول الله : وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200]. رواه مسلم.
وهذا يفسر لنا ـ أيها الإخوة ـ ما نرى من قَطِيعة وبُغض وغِلّ بين المسلمين بسبب ما ذكرنا من نَزْغ الشيطان بينهم، فالشيطان يجتهد جاهدًا لقطع الروابط بين المسلمين، فربما فلَتَت الكلمة بين اثنين، فينْزَغ الشيطان إلى الآخر فيجعله يحملها على غير محملها، فيأتي الرد السيئ ليشعل نار الشحناء والبغضاء بينهما، فإذا المودّة والمحبة انقلبت جفوة وعداوة. عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الشيطان قد أَيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحرِيش بينهم)) رواه مسلم.
فكم أوقع الشيطان من عداوة بين المسلمين، وخاصة حين تكون العلاقة بين الناس فيما يرضي الله تعالى كعلاقة الأرحام والأقارب مع بعضهم البعض، أو كعلاقة الإخوة في الله، وقصة يوسف مع إخوته خير دليل على ذلك، قال الله عزّ وجلّ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].
والشيطان ينزغ الإنسان من عدة جهات، فأحيانًا ينزغه من جهة لسانه ليتلفّظ بألفاظ فاحشة بذيئة أو كفرية أو شركية والعياذ بالله، وربما انتقل نزغ اللسان إلى اليد، فيقع الشر والخصومة والعداء، ولهذا الغرض نهى النبي أن يشير المسلم إلى أخيه بالسلاح، فربما نزغ الشيطان إليه فقتل أخاه بسلاحه فيقع في النار، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار)) رواه البخاري.
أيها السلمون، من أساليب الشيطان في المكر ببني آدم الاستهواء، والاستهواء هو أن يُزيّن الشيطان للإنسان هواه، فيفسد هواه وعقله وقلبه. ولقد أخبرنا الله تعالى بهذه المكيدة الشيطانية الخفيّة، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71].
ولقد استهوى الشيطان وزيّن الباطل لكثير من الناس، فكم حَسّنَ من قبيح وزيّن من فاحش وجَمَّل من رذيلة ومَلَّحَ من ذميم وأعمى عيونًا لترى الفواحش والمنكرات والمحرمات في قالب مزخرف وصورة حسنة، وهي تخفي في حقيقتها السمّ والداء الدَفِين، فهو يظهر الباطل في صورة الحق مع تزيينه بالشهوات؛ كي تندفع إليه النفوس المريضة، لتقع فريسة للشيطان الذي يتربص بها الشر ويقودها إلى هلاكها وخسرانها.
والشيطان حين يُزيّن الباطل للإنسان فإنه بالمقابل يظهر الحق في صورة قبيحة ومُسْتَهْجَنَة؛ لينفّر النفوس عن الحق، فلا تتبعه وتدعو إليه، فالشيطان هو الذي أوحى إلى أوليائه تسمية المرأة المحتشمة بحجابها الشرعي رَجْعِيّة ومُتَخَلِّفة، وهو الذي تلاعب بكثير من القنوات الفضائية حتى جعلهم يدعون إلى الباطل وينفرون من الخير، وهو الذي جعل البعض يكره الدين وأهله، وهو الذي جعل المعروف منكرًا والمنكر معروفًا عند بعض الناس، وهو الذي جعل الناس يسمون أم الكبائر الخمر بالمشروبات الروحية، وهو الذي زيّن أفلام الرذيلة الواقعية كإستار أكاديمي وغيرها، فسَوّل للبعض أنها فن وجرأة وبراءة وشُهرة، وهو الذي زين للبعض أكل أموال الناس بالباطل باسم الذكاء والفِطْنة، وهو الذي جعل البعض يُسمّي الربا الحرام فوائد بنكية، وهو الذي زيّن للبعض معاكسة بنات المسلمين وهتك أعراضهن وفضح أهلهن باسم التسلية، وهو الذي هوّن من عِظَم ذنب رؤية صور النساء عبر الجوّال أو الشاشة أو الحاسب الآلي حتى صار الكثير لا يعدّونه ذنبًا.
أيها الإخوة، من أساليب الشيطان في إضلال الإنسان أسلوب التدرج بالخطوات، ولذلك حذّرنا الله تعالى من اتخاذ خطوات الشيطان والاسترسال معها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21]، وقال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين [الأنعام:142].
فالشيطان حين يدعو الإنسان للمعصية فإنه لا يدعوه إليها مباشرة، بل يقرّبه منها خطوة خطوة، وشيئًا فشيئًا، حتى يقع في الفخّ الذي نصبه له، فهو يدعوه أوّلاً إلى المعصية، ويزيّنها في نفسه، ويدخل على النفس من الباب الذي تحبّه وتميل إليه، فهو يجري من الإنسان مجرى الدم، ثم يحبّب النظر إلى المعصية فتحسن في عينه، ثم يدعوه إلى الاقتراب منها ثم ارتكابها، وهو في ذلك يوسوس له بأن هذه المعصية من اليسير فعلها، وليس هناك ما يدعو إلى التردّد، حتى يزيل هيبة المعصية من قلبه، ثم يؤمّنه من عاقبة فعلها، بأنه لن يطلع عليه أحد، وأنه فِعْل ينتهي في وقته، وليس له مُطالِب، ويوحي بأن هذه فرصة نادرة فعليه اغتنامها والتلذّذ بها، وربما لن تحصل له مرة أخرى، وهكذا يقود الشيطان هذا الإنسان المسكين إلى المعاصي عن طريق تلك الخطوات الشيطانية المتتابعة، حتى يملأ قلبه وفكره ومشاعره وهمّه في الرغبة المُلحّة في فعلها، ونقله من معصية إلى أخرى أكبر منها، ولا يدعه الشيطان إلا وهو غارق في أوحال وأقذار المعاصي والآثام، فيبتهج عند ذلك الشيطان ويفرح أشدّ الفرح؛ لأنه كسب إنسانًا يكون رفيقًا له في نار جهنم، إن لم يتداركه الله برحمته فيتوب من ذنوبه.
أسأل أن يبصّرنا بخطوات الشيطان حتى نحذر منها، وأن يرزقنا العصمة من الشيطان الرجيم، إنه جواد كريم.
بارك الله لي ولكم بهدي كتابه وسنة رسوله. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه توّاب غفور رحيم.
|