أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ تقواه، وتمسَّكوا بها، فنِعمَ العملُ والذُّخر والفَوز في دنيا العبدِ وأخراه.
أيّها المسلمون، لقَد خلقَ الله الخَلقَ لتنفُذَ فيهم قدرتُه، وتجرِيَ عليهم أحكامُه الشَّرعيّة والقدَريّة، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]. خلَقَ الكونَ بالحقِّ ليُطاعَ الربُّ، ويُعمَر الكونُ بالصَّلاح والإصلاح، وجعَل الله للمكلَّفين مشيئةً واختِيارًا أناطَ به التّكليفَ، ولا يخرُج العبدُ بتلك المشيئةِ عن قدرةِ الله ومشيئتِه، فمَن وافقَ مرادَ الله المحبوبَ لَه وعمِل بالحقّ الذي لأجلِه خلَقَ الكونَ، وأطاع ربَّه جَزاه الله الجزاءَ الحسَن في الدنيا وفي الآخرة، كمَا قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]. ومَن ضادَّ مُرادَ الله المحبوبَ له، وعارَضَ شريعةَ الإسلام وعصَى ربَّه، عاقبَه الله في الدنيا والآخرة، قال عزّ وجل: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124].
وأعمالُ العِباد مُحصاةٌ عليهم صَغيرُها وكبيرُها ليُجازَوا عليها، كما عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]. فالجزاءُ الحَقِيقيّ الدّائمُ في الآخِرة، وأمّا الدّنيا وإن كان فيها جَزاءٌ على الخير أو على الشرّ فإنّه جزاءٌ قليل وجزاء منقطِع، تتصرّم أيّامُه وتسرِعُ ساعاتُه، حتّى إنّ عُمرَ الدنيا كلِّها يراه العُصاةُ مِقدارَ ساعةٍ من نهارٍ، قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم:55]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45]. ولكنَّ الجزاءَ الأبديَّ السّرمديّ الذي لا ينقطِع في الآخرةِ؛ إمّا دارُ نعيم وإمّا دار جحيم.
والجزاءُ بالجنّة على الأعمالِ الصالحة والعقابُ بالنار على الأعمالِ الشّرِّيرة، في غايةِ المناسَبَة والمجانسة والعدل من رب العالمين، فإنّ الجزاءَ من جِنس العمَل، فكلمّا كانَت الأعمالُ صّالحة كان الجزاء أعظم، ولمّا كانَت الأعمالُ الصّالحة تتنوّعُ في حقائقِها ومنافِعِها، كان نعيمُ الجنّة منوَّعًا في حقائقِه ومنافِعه وطُعومِه ولذّاتِه، ولما عَبَد أهلُ الجنّةِ ربَّهم بالغَيب ولم يرَوه تجلَّى الله لهم، فأكرَمهم بلذَّة النظر إلى وجهِه الكريم، وأسمَعهم جلالَ كلامِه العظيم، ولمّا علِم الله مِنهم العَزمَ والتَّصمِيم والإرادةَ الجَازِمة على دَوام عبادةِ الله وطَاعتِه أبدًا، أدامَ الله عليهم النّعيمَ المقيمَ، قالَ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]. ولما كانَت الأعمالُ الشرِّيرة تتنوَّع في حقائِقها المُرَّة ومَضارّها وخُبثِها وشَرِّها على الناس وعلى الكون، كانَ عذابُ النار منوَّعًا في شِدَّتِه وألمِه ومَرارتِه بحسَب الأعمال، ولما حجَبوا قلوبَهم عنِ الهدَى والإيمانِ احتجَب الله عن أهل النار فلا يرَونَه، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]. ولما علِم الله أنّ أهلَ النّار دائمو العَزمِ والإرادة على الكفرِ والمعاصي، وأنهم إِن رُدّوا إلى الدنيا عَادوا إلى الكفرِ والمعَاصي، لما علِم الله منهم ذلك أدامَ عليهم العذابَ الأليمَ، قال عز وجلّ: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27، 28].
عبادَ الله، إنَّ أصفَى ساعاتِ المسلم وأفضلَها وأرقى درجاتِه أن يستوليَ على قلبه الطمَعُ في الجنةِ والخوفُ من النار، وقد كان السّلفُ الصالح رضي الله عنهم يغلِب على قلوبهم الخوفُ من النّار والطمعُ في الجنّة، فصَلحت أعمَالهم واستنارت سرائرهم.
هذا عبدُ الله بنُ رواحة يودِّع أصحابَه في غزوةِ مؤتَة، فيبكِي ويقال له: ما يبكِيك؟ فقال: والله، ما أبكي صَبابةً بِكم ولاَ جزَعًا على الدّنيا، ولكن ذكَرتُ قولَ الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فكيف لي بالصَّدرِ بعد الورود؟!. وعُمير بن الحمام لما قال النّبيّ في غزوةِ بَدر: ((قوموا إلى جنّةٍ عرضُها السموات والأرض)) كان في يدِه تمراتٌ فرمى بهنّ، وقال: لئِن بقيتُ حتى آكلَ تمراتي هذه إنها لحياةٌ طَويلة، فقاتل حتى قُتِل . وأنسُ بن النّضر قال: (إني لأجِدُ ريحَ الجنّةِ مِن دونِ أُحُد).
والكلامُ عنهم في هذا يطول، ونحن بحاجةٍ إلى ذكر الجنة والنّار في قلوبِنا ونوادينا وفي ليلنا ونهارنا لتستقيمَ أحوالنا وتصلح أعمالُنا، ولا سيّما في هذا العصرِ الذي طغت فيه المادّة، وتظاهرت الفتَن، وقلَّ الناصحُ، وضعُف الإيمان، وتزيّنت الدنيا بزُخرفها وزهرَتها، وأثقلتِ الكواهلَ بكثرةِ مطالبها، وأرهقتِ الأعصابَ بتشعُّب حاجاتها، حتى صار التحابُّ من أجلِها والتباغُض من أجلها والتواصُلُ لها والتقاطُع لها إلا من شاء الله تعالى، فكانت أكبرَ ما يصُدُّ عن الآخرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8].
الطّمَع في الجنّة قائِد، والخَوفُ من النّار زاجِرٌ وسائق. الجنّة حُقَّ أن يطلبَها المسلمُ جُهدَه، ففيها ما لا عينٌ رأَت ولا أذُنٌ سمعَت ولا خطَر على قَلبِ بَشَر، عن أسامة بن زيد قال: قالَ رسول الله : ((ألا هَل مشمِّرٌ للجنة، فإنّ الجنةَ لا خَطَر لها، هي ـ ورَبُّ الكعبةِ ـ نورٌ يتلألأ، وريحانَة تهتزّ، وقَصرٌ مَشيد، ونهر مُطَّرِد، وثمرةٌ نضيجَة، وزوجةٌ حسناء جميلة، وحُلَلٌ كثيرة، ومَقامٌ في أبَد في دارٍ سليمَة، وفَاكهةٍ وخُضرة وحَبرة ونِعمَة في محَلَّةٍ عالية بهيَّة))، قالوا: نعَم يا رسولَ الله، نحن المشمِّرون لها، قال: ((قولوا: إن شاءَ الله))، فقال القوم: إن شاء الله. رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((بِناءُ الجنة لبنةُ ذهَب ولبنَة فِضّة، وملاطُها المِسك ـ وهو ما يكون بين اللَّبِن ـ، وحصباؤُها اللّؤلؤ والياقوت، وترابُها الزّعفران، ومَن يدخُلها ينعَم ولا يبأس، ويخلُد ولا يموت، ولا تبلَى ثيابُه، ولا يفنى شبابُه)).
وعن أبي موسى الأشعري عن النبيِّ قال: ((إنّ للمؤمنِ في الجنّةِ لخيمةً مِن لؤلؤةٍ واحِدة مجوّفة، طُولُها في السّماءِ سِتّون ميلاً، للمؤمِن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمِن، فلا يَرى بعضُهم بعضًا)) رواه البخاري ومسلم.
وأمّا شرابُهم فكما قال الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:15].
وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رَسول الله في أزواجِ أهلِ الجنّة: ((يضَع أحدُهم يدَه بَين كتفَيها، ثم ينظُر إلى يده من صدرِها من وراءِ ثِيابها وجِلدِها ولحمِها، وإنّه لينظُر إلى مُخِّ ساقِها كمَا ينظُر أحدكم إلى السِّلك في قصَبةِ الياقوت، كبِدُه مرآةٌ لها، وكبدُها مِرآة له)) رواه أبو يعلى والبيهقي.
وعن أنسِ بنِ مالكٍ يرفعه: ((إنّ أسفلَ أهل الجنّةِ أجمعين مَن يكون على رأسِه عشرةُ آلاف خادِم، معَ كلِّ خادمٍ صحفتان: واحدةٌ من ذهَب وواحدةٌ من فضّة، في كلّ صَحفةٍ لونٌ ليس في الأخرى مثلُها، يأكل من آخرِه كما يأكل من أوَّله، يجِد لآخرِه من اللذَّة والطّعم ما لا يجِد لأوّلِه، ثم يَكونُ فوقَ ذلك رشحُ مِسكٍ وجُشاء مِسك، لا يبولون، ولا يتغَوّطون، ولا يمتخِطون)) رواه الطبراني وابن أبي الدنيا.
وقد وصَف الله تعالى ما في الجنّةِ من النعيمِ المقيم في كتابِه بما لم يُوصَف في كتابٍ منزَّل، ووصف ذلك رسولُ الله بما لم يصِفه نبيّ لأمته؛ لنعمَلَ بأعمالِ أهلِ الجنّة ولنسارعَ إلى الخيرات ونطلبَ جنةَ ربِّنا بجُهدَنا، ونَسأل الله تبارك وتعالى أن لا يكلنا إلى أنفسنا، ونَسأل ذلك من ربِّنا.
وأعظمُ مِن نعيم الجنة رضوانُ ربِّ العالمين على العبد، والنّظرُ إلى وجهِهِ الكريم، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72].
وأمّا النّار وما أدرَاك ما النّار، فهي مثوَى الأشرارِ، ومكانُ الخُبث والذِلّة والخزيِ والصّغار، بعيدةُ القَعر، لو أنّ الحَجرَ يُلقى من شَفيرها ما أدرَك لها قَعرًا سبعين خريفًا. رواه مسلم.
شديدةُ الحرّ، ((نارُ الدّنيا جزءٌ واحِد مِن سبعين جزءًا مِن نارِ جَهنّم)).
طعامُ أهلِها الزّقّوم من شجرةٍ تنبتُ في أصل جهنّم، يأكل منها أهل النار ويشربون عليها من الحميم، وطعامهم الضّريعُ لا يُسمِن ولا يُغني من جوع، خبيثُ الطّعم، مُرُّ المذاق، شديدُ الحرارَة، ينشَبُ في الحَلق فلا يسيغه إلى جوفِه إلاّ بالماءِ البالِغ الحرارة، فإذا وصل إلى الجوف قطَّع الأمعاء والعياذ بالله.
ومِن شَرابهم المُهلُ والغسّاق وهو الصّديد من القيحِ والدّم، ولباسُهم القطِران والحديد، قال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]. عَن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: (إنّ في النارِ حيّاتٍ ـ أي ثعابين ـ كأمثالِ أعناقِ البُخت تنهَش الرّجل، فيجِد حَرَّ سُمِّها سبعينَ خريفًا) رواه أحمد. وفيها العقارب التي وصفها النبي كأنها الخيل الدهم.
قال عز وجلّ: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفَعنا بهديِ سيّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|