أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ وأطيعوه، فإنّ طاعتَه خيرٌ لكم في الدّنيا وذُخر لكم في الأخرى.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ الله تفضَّل وتكرَّم على الخلقِ ببعثة سيِّد ولَد آدم محمد ، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فالمسلمُ مرحومٌ رحمةً خاصّة برسالةِ محمّد ؛ لأنه آمن بها واتَّبعها وعمِل بها، والكافِر مرحومٌ رحمةً عامّة برسالةِ الإسلام؛ لأنَّ تمسُّكَ المسلمين بدينهم وتطبيقهم لتعاليمه، يخفف الله به شرَّ الكافرين، ويجَفِّف الله به منابعَ فساد المفسدين، قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
وقد أنزل الله على نبيّه أعظمَ كتاب، وأنزلَ عليه أعظمَ تفسيرٍ للقرآن الكريم وهو السنّة النبويّة، وحفِظَ الله القرآن والسنة من التغيير والتّبديل، وحفظهما من فاسِدِ الآراء والتأويل الباطل، وأقام الله الحجّةَ على العالمين بسيِّد المرسَلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهدَى الله نبينا محمَّدًا إلى أحسَن الهَدي، ويسَّره لأحسنِ السّبل وأسهل المناهج، قال الله تعالى لنبيّه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، وروى مسلمٌ من حديث جابر قال: قال رسول الله : ((إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة))[1].
وقد وفَّى النبيّ مقاماتِ العباداتِ كلَّها ومراتبَ الدّين، وفضائل الأعمال والخصال المحمودة والأخلاق المرضية، قد وفَّى هذه الأمورَ كلَّها حقَّها، وأتى بالغايةِ في ذلك كلِّه، فرسول الله هو القدوةُ للعابد، والقدوةُ للداعية، والقدوة للمعلِّم، والقدوةُ للحاكم، والقدوة للقائد، والقدوةُ للجنديّ، والقدوةُ للزّوج وللأب، والقدوةُ في المعاملات وفي كلِّ حالٍ يتقلّب فيه الإنسان، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقُه القرآن)[2]، أي: يعمَل به في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ويتَّصف ويعمَل بما يدعو إليه القرآن، ويجانبُ ما ينهى عنه القرآن.
وسنّة رسول الله معالمُ هُدَى في الصراط المستقيم، يقتدي بها المسلمون، ولقد جمعت سنةُ رسول الله الفضائلَ كلَّها والخيراتِ والكمالاتِ كلَّها، فمن عمل بالسنَّة فقد جمَع الله له الخيرَ كلَّه، ومن ترك السنةَ فقد حُرم الخيرَ كلَّه، ومن ترك بعضَ السنة فقد فاتَه من الخير بقدرِ ما ترك من السنة النبوية.
وإذا كانت هذه منزلة السنة النبوية، وهذا فضلها ومكانُها السَّنيّ وشرفها العليّ، فما معنى هذه السنة؟
السنة ـ يا عباد الله ـ معناها في اللغةِ: الطريق المسلوك والعادة المتَّبعة، قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً [الإسراء:77]. ويرادُ بالسنة في الشرع: التمسّكُ والعمل بما كان عليه رسول الله هو وخلفاؤه الراشدون المهديون وصحابتُه السابقون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، كما يُرادُ بالسنة أقوالُ رسول الله وأفعالُه وتقريراته؛ لأن ذلك أصلُ الاعتقاد والعمل.
أمةَ الإسلام، إنَّ الحالَ التي وصَل إليها المسلمون يَحزَن لها قلبُ كلِّ مؤمن، وتدمع العين، وتأسى النفس، فقد تكالب عليهم الأعداءُ، ونال هؤلاء الأعداءُ من المسلمين ما يغيض المسلمين في كل مجال، واستهانوا بحقوقهم واتجرؤا عليهم واستخفوا بقيمهم، وتمادوا في الظلم والعدوان عليهم، ومزَّقت المسلمين نزعات التعصبُ المذهبي والمناهجُ الحزبية والقوميات الجاهلية والبدَع المحدثة، وأضعَفَ المسلمين تناحُرهم وتفرُّقُهم والأهواءُ الضالّة واتِّباع الشهوات المحرّمة، وليس ذلك الضعفُ والانحطاط والذُّل لقلَّة عَدد المسلمين، فهم أكثرُ أهلِ الأديان عددًا، وإنما مُصابُ المسلمين بالتقصير في العمل بدينهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
وإنّ الوضعَ الذي عليه المسلمون اليومَ من كيد أعدائهم لهم، وإنزالِ أنواع البلايا والمِحَن عليهم، إنّ تِلك الحالَ وذلك الوضع قد أيقظَ الهِمَمَ العالية، وأوجب النصائحَ الصادِقة أنِ ارجعوا ـ أيها المسلمون ـ إلى ربِّكم، وتوبوا إلى بارئكم، وتمسَّكوا بدينكم، واعملوا بكتابِ ربِّكم وسُنَّة نبيكم ، يرحمكم ربُّكم ويرفَع ما نزل بكم.
وإنَّ أسباب أمراضَ المسلمين قد كثُرت، وإن أسبابَ انحطاطِهم قد تعدَّدت، ومصائبهم قد توالت والعقوبات قد عظُمت، وقد يزداد الأمرُ سوءًا ولكنَّ العاقبةَ الإسلام.
إنَّ أدواءَ المسلمين ليس لها دواءٌ إلاَّ السنَّة النبوية، إنَّ اتباعَ سنةِ رسول الله والتمسّك بمنهج السلف الصالح، عِلاجُ الأمراض وزوالُ المكروهات ونزُول البركات والخيرات، والتمسُّك بالسنة هو الاجتماع ونَبذ الخلافات وتوادُّ القلوب واتفاق النيات، والتمسُّك بالسنة هو النصرُ على أعداء الحقِّ، وعلى أهلِ الغيّ والشهوات، قال بعض أهل العلم: "ما مِن بلدٍ يعمَل أهلُه بالسنّة وتظهر فيه أنوارها إلاَّ كان منصورًا ظاهرًا على عدوِّه، وما مِن بلدٍ تنطفئ فيه أنوارُ السنة إلاَّ غلَب عليه عدوُّه". وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((جُعِل رزقي تحتَ ظلِّ رمحي، وجُعلت الذِّلَّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم))[3]، وروى أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية ، قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجلت منها القلوبُ وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتيّ وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة))[4].
إنّ الدعوةَ للسنّة النبوية هي للناس كلِّهم، ففرضٌ على كلّ مسلم أن يقومَ بذلك، فدعوةُ المسلم لأخيه المسلم بتكميل نقصِ تمسُّكِه بالسنة، واستدراكِ ما فاته مِن العمل بالسنة، وجَبر تقصيرِه في دينه وتذكيره بغفلته وتعليمه ما يجهله، ومعاونته على الخير وتحذيره من الشر، ودعوةُ المسلم للكافر ببيان محاسنِ الإسلام وإقامة الحجّة عليه، وأن يكونَ المسلم قدوةً صالحة في دينه.
وأنتم ـ أيها المسلمون ـ في هذه البلاد عافاكم الله مما ابتُلِيت به بعض البلدان من كثير من الشرور، فاحمدوا الله على ذلك، ولكن احذَروا أن تفتَحوا على أنفُسكم أبوابَ الشرِّ الذي فُتِح على غيركم، فإن الأمة ما تزال بخير ما لم تفتح على نفسها باب الشرِّ، فإذا انفتح باب شر فلن يُغلق، واعتبروا بما وقع فيه العالَم من الفتن التي يرقق بعضها بعضا، والتي أفسدت الحياة ودمرت المجتمعات، والسعيد من وُعِظَ بغيره والشقيُّ من وُعِظَ به غيره، واحذروا التهاونَ بالذنوب، فإنها سببُ العقوبات، وليكُن المسلم في يومِه خيرًا منه في أمسِه، وفي غدِه خيرًا منه في يومه، ولا يرضَى لنفسِه بالتأخُّر في الطاعة والتساهل في المعصية.
وإياكم ـ معشر المسلمين ـ والموانعَ من اتّباع السنَّة، وأعظمُ مانعٍ من اتّباع السنةِ اتباعُ الهوى، قال الله تعالى عن المعاندين للحق: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]. وأهلُ البدَع يُسمِّيهم السلفُ أهلَ الأهواء لمباعدتهم السنَّة. وإياكم وفتنةَ الدنيا وركوبَ الشهواتِ المحرمة، فإنَّ ذلك يصدُّ عن السنة، قال الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]، وقال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
وممّا يصُدُّ عن سنَّة المصطفى تقليدُ الضالّين المُضِلِّين من ذوي التعصُّب المذموم، وأربابِ الطُرُق الضالّة والأهواء المنحرفة، قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
وممّا يصُدُّ عن سنّةِ المصطفى الجهلُ بها، وفي الحديث: ((من يُردِ الله به خيرًا يفقّهه في الدين))[5] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية .
فلا يحُلْ بينك وبين السنّة ـ أيها المسلم ـ حائل، ولا يصدَّنَّك عنها شيء، فإنه لا يأمَن من الشر والعقوبات ولا يفوز بالخير والجنات، إلاَّ من تمسَّك بما كان عليه رسول الله وأصحابُه، فتمسك بهذه السنَّة في كل صغيرة وكبيرة من حياتك، واحفظ من القرآن واحفظ من الحديث ما تحتاجه في عباداتك ومعاملاتك، وكلما ازددت فهو خير لك، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:20، 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (867).
[2] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746)، من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[3] أخرجه أحمد (2/50)، وابن أبي شيبة (4/212)، وعبد بن حميد (848)، والطبراني في مسند الشاميين (216)، والبيهقي في الشعب (1199). قال الهيثمي في المجمع (5/267): "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات". وعلق البخاري بعضه بصيغة التمريض في كتاب الجهاد، باب: ما قيل في الرماح. وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) جزأه الأخير. قال ابن تيمية ـ كما في المجموع (25/331) ـ: "هذا حديث جيد". وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح". وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271). وله شاهد أخرجه ابن المبارك في الجهاد (105)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/216) عن طاووس مرسلا، قال الحافظ في تغليق التعليق (3/446): "إسناده حسن". والحديث صححه الألباني في الإرواء (1269).
[4] سنن أبي داود: كتاب السنة (4607)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2676)، وأخرجه أيضا أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[5] صحيح البخاري: كتاب العلم (71)، صحيح مسلم: كتاب العلم (1037). |