.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

القول على الله بلا علم

4400

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي

عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

الرياض

10/5/1426

جامع الإمام تركي بن عبد الله

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضيلة العلم النافع. 2- التحذير من أدعياء العلم والفتوى. 3- خطورة القول على الله بلا علم. 4- حال السلف مع الفتوى بغير علم. 5- وجوب التثبت في الفتوى. 6- التحذير من أكل أموال الناس بالباطل بأي وسيلة. 7- الصدق أساس النجاح في التجارة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.

عباد الله، العلم النافع شرفٌ لأهله في الدنيا والآخرة، يقول الله جل وعلا: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. العلم النافع سببٌ لخشية الله ومخافته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. العلماءُ استشهد الله بهم على أكبر مشهود عليه وهو توحيده وإخلاص الدين له: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

هذا العلم المقرون بالعمل فهو العلم النافع، إذِ العلم الذي يفقد العمل لا ينتفع به صاحبه، بل هو ضرر ووبال عليه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، وقد ذمّ الله اليهود لمّا كتموا علمهم بمحمد ، وأنكروا رسالته، مع علمهم بذلك، وما نطقت به كتبُ الله السابقة، لكنّ القوم تجاهلوا كل هذه الأمور، فخصَّهم اللهُ بالغضب: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].

أيها المسلم، وصاحب العلم النافع هو الذي يعمل بعلمه أوّلاً، فيكون قدوةً لغيره في القول والعمل، يتأسّى به الآخرون في أعماله؛ إذ أعماله الطيبة تدلّ عليه، وتُعرّف أنه عالمٌ حقًّا، يقف عند حدود الله فيلتزم تحريم الحرام، ويلتزم تحليل الحلال، ويتأدّب بآداب الشرع، ويتخلّق بأخلاق الإسلام، فكلُّ من رآه مصليًا أو رآه مُزكّيًا أو صائمًا أو حاجًّا أو رآه بارًّا أو واصلاً بالرحم أو رأى تعامله الجيد في صدق وأمانة؛ أحبّه واقتدى بآثاره، وتأسّى بأفعاله، فهو العالم الذي يدعو إلى الله بالقول والعمل.

صاحب العلم النافع هو الذي ينشر علمه، ويبث علمه في الآفاق، فلا يكتم علمًا حمّله الله إياه، إذا سئل عنه أبان الحق على وفق ما دل الكتابُ والسنةُ عليه. ولذا قال الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. وذم الله ذلك العالم الذي كتم ما أنزل الله، وأخفى حقيقة شرع الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159]، ما أعظمه من وعيد على عالم كتم علمه! على عالم أخفى علمه! على عالم يرى الباطل والحرام وانهماك الناس في المعاصي فلا ينطق بالحق، ولا يقول الحق! على عالم يشتري بعلمه الدنيا! قال جلّ وعلا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].

صاحب العلم يبتغي بعلمه وجه الله والدار الآخرة، يقصد بعلمه تخليصَ نفسِهِ من الجهل وتخليصَ غيره، وإصلاحَ أعمال العباد، هكذا طالب العلم حقًّا، ذو خُلُقٍ وحِلْمٍ وأناةٍ، ذو علمٍ وأناةٍ، ذو فقه وبصيرة في أموره كلها.

أيها المسلمون، وإن هناك أدعياء على العلم، مَن لا علم ولا بصيرة عندهم، نصبوا أنفسهم مفتين للأنام، نصبوا أنفسهم مفتين للخلق، يفتون بغير علم، ويقولون على الله بغير علم، قد يكون عند الواحد شيء من علم، لكنه يُعجَب بنفسه، فَيَظُنّ [أنه] العالمُ الذي لا يُجَارَى في علمه، والعالمُ الذي قد فهم كل الأمور، والعالمُ الذي قد أحاط بكل المعلومات. هذا الضرب من الناس ضرره على البشر عظيم، ضررهم على الخلق عظيم؛ لأنهم يفتون، ويُظَنّ أنهم أهلُ علم وهم في الواقع على جهل وقلّةِ علم، يفتون بما لا يعلمون، ويقولون على الله ما لا يعلمون، يخجل الواحد منهم أن يقول: أنا لا أعلم، يَنْتَصِبُ مفتيًا في قناة ما من القنوات أو في صحيفة من الصحف أو في موقع من مواقع الاتصالات يفتي فيحلّل ويحرّم، ويفتري على الله بلا علم. إن هذا الضرب من الناس مصيبة عظيمة على الأمة، وبلية من البلايا، فليتق المسلم ربه عندما يفتي غيره، وليعلم أن الله سيسأله عن كل فتوى أفتى بها، فإن كانت موافقة للصواب فنِعْم الثواب، وإن كانت مخالفة للحق باء بالإثم والوِزْرِ، والعياذ بالله.

إن الله جلّ وعلا عَظّم القولَ عليه بلا علم، وجعل منزلة القول عليه بلا علم فوق منزلة كلّ الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فجعل القول عليه بلا علم أعظم من الشرك به؛ لأن الشرك وكل الذنوب دونه فمصدرها القول على الله بلا علم. فاحذر ـ أخي المسلم ـ أن تقول على الله، وعلى شرع الله ما لا تعلم. قَفْ إذا سُئِلتَ عما لا تعلم، سَلْ وفتِّش وابحث، واحذر أن تقول: هذا شرع الله، وأنت كاذب ومخطئ. احذر أن تقول: هذا دين الله، وأنت لا تعلم ذلك. اسمع اللهَ يقول: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، فالذي يحلّل ويحرّم بمجرّد هواه وعاطفته وشهوته قائلٌ ومُفْتٍ على الله بلا علم، ويقول الله جلّ وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116، 117].

أيها المسلم، إن شرع الله ليس بالأهواء: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [المؤمنون:71]، شرع الله الذي شرعه بكمال حكمته ورحمته وعلمه وعدله فلا يجوز لأحد أن ينسب إلى الله ما لم يقله الله، النبي يقول: ((من كذب عليّ متعمّدًا فلْيَتَبَوّأ مَقْعَده من النار))[1]، وقال: ((ليس كذبًا عليّ ككذب على غيري، من كذب عليّ متعمّدًا فلْيَتَبَوّأ مَقْعَده من النار))[2]. إذًا فالكذب على الله أعظم، الكذب على الله مصيبة وبليّة عظمى. الذي يفتي الناس بلا علم هو كاذب على الله، الذي يفتي الناس بجهل كاذب على الله، الذي يحلّل ويحرّم بهواه كاذب على الله.

لقد كان سلفنا الصالح ـ من أصحاب محمد ، وتابعيهم بإحسان ـ كانوا يتحرّجون من الفتوى بلا علم، ويتوقّفون ويتورّعون، ويودّ أحدُهم أن يكفيه أخوه هذه الفتوى، يتحرّجون ويتدافعونها لا عجزًا، ولكن لإظهار قيمة القول على الله، ولبيان عِظَم القول على الله بلا علم، وليعطوا الناس تصورًا أن الفُتْيا بلا علم ضرر وبلاء عظيم، هكذا كان سلفنا الصالح، ولهم في ذلك الأقوال المشهورة، والأدب العظيم رضي الله عنهم وأرضاهم.

في عهد النبي رجلٌ في سَرِيّة من السّرَايا شُجُّ رأسُه واحتلم، فسأل أصحابه: إنِ اغتسل مات، هل له من رخصة؟ قالوا: لا نجد لك رخصة. فاغتسل فمات، فبلغ النبيَّ ذلك فقال: ((قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العِيّ السؤال))[3].

لقد كان عمر بن الخطاب أميرَ المؤمنين وثانيَ الخلفاء الراشدين، ومَن أُلْهِمَ الصوابَ في أموره إذا وردت عليه قضية شرعية دعا المهاجرين والأنصار لها؛ ليَصْدُرَ الناس عن اجتماع كلمة وعن قول حقّ. كل هذا تعظيمًا لأمر العلم، وتعظيمًا لشأن العلم، ولكن للأسف الشديد، نسمع من كثير تسرّعٌ في الفتوى، وحكمٌ على الله بلا علم. وقد يفهم شيئًا من الأقوال، لكنه لا يدرك الأدلّة، وليس معناه أنْ يُمنَع كل أحد، لكن أقول: من لا علم عنده، من لا بصيرة عنده، من لا فقه في دين الله عنده، فليقف عند حدّه، ولا يحُمّل نفسه ما لا طاقة لها، ومن أعطاه الله علمًا، ومَنَحَه فهمًا وفقهًا فلْيُفْتِ على قدر استطاعته، وليتقّ الله ربه، وليحرص على جمع الكلمة، وليحذر الشواذّ من المسائل، الشواذّ من الآراء التي قد قيلت، لكنّ أصحابها يُعذَرُون؛ لأن الدليل خفي عليهم، ولا يُقلّد الناس في شرع الله، فإن مَردّ الجميع كتاب الله وسنة محمد .

وأئمة الإسلام هكذا يقولون، قال الإمام مالك رحمه الله: "ما منا إلا رادٌّ ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر"، يعني محمدًا . وكان أبو حنيفة الإمام رحمه الله يقول: "إن وجدتم لي قولاً يخالف الكتاب والسنة فإني أبرأ إلى الله منه". هكذا أئمة الإسلام، وهكذا الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله، كل أولئك يحذّرون من القول على الله بلا علم، ويتبرّؤون من أقوالهم إن يكن فيها مخالفة للدليل من حيث لا يعلمون.

لقد كان الورع يحكمهم، والخوف من الله يحجزهم من الانطلاق في الفتوى بلا علم.

أتى رجلٌ إلى مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، وقد جاءه من قارة إفريقيا، فسأله عن أربعين مسألة، فأجاب على بعضها، وقال في معظمها: لا أدري. قال له السائل: جئتك من مكان بعيد، وقصدتك وأنت إمام دار الهجرة تقولي لي: لا؟! قال: اخرج للناس، ونادِ: إن مالكًا لا يدري، ونادِ: إن مالكًا لا يعلم. ليس هذا نقصًا في قدره، ولكنه دليل على قوة الإيمان والخوف من الله. قال أحد أصحاب مالك: حضرت مالكًا عند الموت فبكى بكاءً كثيرًا، فقلت: أبا عبد الله، ما شأنك؟ قال: وَدِدْتُ أني جُلِدتُ عن كل مسألة أفتيت فيها عشرة أسواط، وألقى الله وأنا خالٍ من التَّبِعَة. كل هذا من ورعهم وزهدهم وخوفهم على أنفسهم من أن يزل اللسان بلا علم.

فليتق الله أهل العلم، ليتق الله طلاب العلم، وليتحرّجوا من الفتوى بلا دليل، وليقفوا عند حدّهم، ولا يكون هَمّ الإنسان أن يجيب عن كل ما سئل عنه، اللهم إلا أن يكون معتمدًا على دليل، فقيهًا فيما يجيب عنه، مدركًا ذلك، عالمًا حقًّا، أما التّخَرُّص والظنون في شرع الله، والإفتاء بما تحكمه الأهواء، اليوم يفتيك بقول، وغدًا يفتيك بقول آخر، يختار من آراء العلماء في كل قضية ما يناسب الوضع من باب المرونة كما يقول، والتكَيّف في الأقوال، فهذا خطأ أنكره علماء الأمة.

المسلم على طريق ثَبْت، على منهج واضح، حقٌ وضح له أسبابه، أمرٌ خفي عليه أمسك عنه. وأما التلاعب في الفتاوى والتلاعب بها، اليوم يحلّل، وغدًا يحرّم، ويُجَامِل الناس فيما يفتيهم به، فشخصٌ يعطيه قولاً، والشخص الثاني يعطيه قولاً، وربما يعلم أن هذا القول مخالف للدليل، لكنّ الهوى ومحبة الظهور تجعله لا يبالي، ولا يهتمّ، ولا يقيم للدين وزنًا، هذا في الحقيقة نقص في حق الإنسان. فليتق العلماء ربهم، وليتق المنتسبون للعلم ربهم، وليراقبوا الله فيما يقولون، وليحذروا من القول على الله بلا علم، ليحذروا من فتوى تضرّ بالأمة، وتخلّ بها. كم شباب أُفْتُوا بفتوى لم يحسنوا تطبيقها، ولم يفهموا حقيقتها، فَزَجّ بهم أولئك الآخرون بما لا بصيرة عندهم! أفتوهم بأمور هم لا يفهمون حقيقتها، ولا يدركون غاياتها، ولكنهم أفتوهم من باب الحماس والعاطفة، حتى زَجّوا ببعض شبابنا في أمور ضرّتهم في حياتهم، وعرّضت حياتهم للموت، كل هذا من أسباب الفتوى التي لم يزنها صاحبها، ولم يدرك حقيقة ما وراء ما أفتى به. فطالب العلم لابد أن يكون على بصيرة في فتواه، ولا يفتي كل من سأله إلا بعدما يفهم ويعلم ويدرك أن هذه الفتوى يفهمها من يستفتي، ولا تُسَخّر في أمور خطيرة، ولا يَنْضَرُّ بها من استفتى، فإن هذا الشباب الذي عنده حماس وحبّ للخير لابد أن يتحرّى من يفتيه، هل يفتيه بفتوى تنفعه، أمّا فتوى ربما يسوء فهمه لها، ويحملها على غير مُرَاد، ويَزَجّ بنفسه في أمور خطيرة يندم عليها بعد ذلك، فليحذر طالب العلم من هذا، وليتق الله فيما يقول، فإن البصيرة في الفتوى والأناة فيها والبحث عن غاياتها، وما وراء ذلك؛ هو المطلوب من طالب العلم الذي يفتي الناس في شرع الله.

أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يسددنا في الأقوال والأعمال.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه البخاري في العلم (110)، ومسلم في المقدمة (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة.

[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1291)، ومسلم في مقدمة صحيحه (4) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

[3] أخرجه الإمام أحمد (3048)، وأبو داود في الطهارة (337)، وابن ماجه في الطهارة (572)، والدارمي في الطهارة (752)، من حديث عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرسلاً، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سنده مقال، وقد حسّنه بمجموع طرقه الألباني في تمام المنة (131)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/227)، التلخيص الحبير لابن حجر (1/394، 395).

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.

عباد الله، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فنهى الله المسلمين أن يأكل بعضُهم مال بعض بالباطل، والباطل هو الأكل بالطريق غير المشروع، يأكله بكذب، يأكله بحيلة، يأكله بغشّ، يأكله بسرقة، يأكله باغتصاب ونحوه، كل هذه الوسائل وسائل لأكل أموال الناس بالباطل، يأكله بالكذب والحيلة، كيف يحتال، وكيف يكذب؟ يا إخواني، للأسف الشديد، أنّا نسمع دائمًا، ونقرأ في الصحف، نقرأ عن شركات وهمية ومساهمات لا وجود لها، شركات وهمية لا حقيقة لها، يقوم عليها رجال ـ وللأسف الشديد ـ قد يكون أولئك مظهرهم مظهر خير وتقوى، ومظهر صلاح وعبادة، ولكن ـ للأسف الشديد ـ أن الغاية سيئة، والمقصد خبيث، شركات وهمية يُغْرُون الناس بأرباح مُغْرِية، قد يعطونهم في الشهر الأول مثلاً نسبة أربعين في المائة، وفي الشهر الثاني يرغب الإنسان وربما ترك الأرباح ليزداد فيما يرى، ثم يُفاجأ بعد مدّة أن هذه الشركة قد أفلست، وأن صاحبها قد اختفى، وأن الأموال قد عُدِمت، وأن وأن... وإلى آخره.

يا أخي المسلم، إن الاحتيال والكذب ـ وإن نفعك يومًا في الدنيا ـ فإن مآله الفشل ومحق البركة والخزي في الدنيا والآخرة.

يا أخي المسلم، إياك وهذا المسلك الخبيث، إياك وهذا المسلك الوَعِر، إياك وهذه الحِيَل الباطلة، إياك أن تلقى الله بأموال المسلمين، أكلتها عليهم ظلمًا وعدوانًا وكذبًا واحتيالاً. وضعتَ شركات وهمية، وناديتَ عليها، ووثق الناس بك، أحيانًا لأنهم يرون فيك شيئًا من صلاح وتُقَى، ولكن يفاجؤون بأن الأموال قد ذهبت، أين ذهبت تلك الأموال؟ بأي طريق ذهبت تلك الأموال؟ هي لم تذهب، ولكن احتواها جيب هذا الإنسان، وأخفاها واختفى عن الناس، وقد يُعاقب ويُسجن لكن حِيَلُهُ الباطلة ومكائده الخبيثة تجعل هذا المال لا يُعلَم أين هو، ولا أين وجوده.

يا أخي، ليس المهم أن تزداد مالاً، المهم أن تسلك في التجارة الطرق الشرعية، فالوضوح والصدق هو خُلُق المؤمن، يقول النبي : ((يقول الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإن خان رَفَعْتُ يدي، وجاء الشيطان))[1].

فأي شركة أقيمت، وأي مشروع مساهمة أقيم، إذا لم يكن مبنيًا [على] صدق ويقين وإخلاص وتعامل بالمعاملات الشرعية؛ فليعلم أصحابه أنهم عصاة لله، مرتكبون كبائر من كبائر الذنوب، آكلون المال ظلمًا وعدوانًا، آكلون أموال الناس ظلمًا وعدوانًا، آكلو الحرام، دعاؤهم لا يُستجاب، أعمالهم مَمْحُوقَة، أعمارهم يصابون [فيها] بالبلاء والمصائب، ويعيشون حياة شقاء، وما عند الله من العقوبة في الدار الآخرة أعظم وأعظم.

يا إخواني، إن هذه الحِيَل لا تليق بمسلم يصلّي ويصوم، ويؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا رسولاً، يقول في المُتَبَايِعَين: ((فإن هما بَيّنا وصدقا بارك الله لهما في بيعهما، وإن هما كذبا وكَتَمَا مُحِقَت بركةُ بيعهما))[2].

فيا أخي المسلم، الصدقَ الصدقَ في الأمور كلها، الكذبُ ليس مَطَيّة المسلم، المسلم مُترفّع عن الكذب، كيف تظنّ بشخص يقول: إن هذه المساهمة عنده، وهذا المشروع عنده، يعطي ستين في المائة كل أسبوع، يطلب منهم مثلاً عشرة آلاف على أن يعطيهم أربعة آلاف أو خمسة كل أسبوع، فيظن الناس أن هذه مكاسب طيبة وأرباح سريعة وتجارة مضمونه، فينهمك الناس ويثقون، ثم يفاجؤون بأن كل ما ذُكِر لا حقيقة [له] ولا مِصْدَاقية ولا واقعية، وإنما كَذِب واحتيال وظلم للناس، هذا الضرب من الناس وإن نجوا من عقوبة الدنيا فإن الله جلّ وعلا لهم بالمرصاد يوم القيامة؛ لأنهم أكلوا أموال الناس ظلمًا وعدوانًا.

فلنتق الله في أمورنا وفي تعاملنا، وإن المسلم حقًّا من تكون معاملته معاملة صدق وأمانة وإخلاص. أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلّوا رحمكم الله...

 



[1] أخرجه أبو داود في البيوع (3383)، والدارقطني (3/35)، والبيهقي (6/78) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فإذا خانه خرجت من بينهما))، وليس فيه ((وجاء الشيطان))، وهي زيادة عند رزين. والحديث صححه الحاكم (2322)، وأعلّه الدارقطني بالإرسال، وضعفه الألباني في الإرواء (1468).

[2] أخرجه البخاري في البيوع (2079)، ومسلم في البيوع (1532) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً