حديثنا اليوم مع علم من أعلام الأمة الذين تربوا على مائدة القرآن، ممن افترشوا المساجد واتخذوها بيوتًا، إنه التابعي العلم المحدث الفقيه الزاهد العابد سعيد بن المُسَيّب رضي الله عنه وأرضاه. أتعرفون ماذا كان يقول هذا الإمام يا عباد الله؟ كان يقول لتلاميذه: "لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكارٍ من قلوبكم؛ لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة".
عباد الله، لنذهب وإياكم سريعًا إلى هذا الإمام الرباني، لنذهب إلى بيته، لا، إنه ليس في بيته، إنه الآن في مسجد رسول الله ، يجلس ويقرأ الحديث الشريف على تلامذته، هكذا كان أهل العلم، لا يعرفون سوى المساجد، وأهل المساجد هم أهل الله تعالى، فأين أهل العلم اليوم؟! لماذا لا يأتون إلى المساجد؟! لماذا لا نراهم في رحاب المسجد الأقصى المبارك؟!
المسجد الأقصى وطلاب العلم في المسجد الأقصى يرسلون رسالة إلى أهل العلم لمواصلة دروسهم في رحابه، لماذا لا تكون جلسات متواصلة بين الناس وبين العلماء في أرضنا المباركة؟! نحن اليوم في أمس الحاجة لإعمار المسجد الأقصى بالعلم والعلماء وطلبة العلم.
إذا أردنا حماية المسجد الأقصى فعلينا عمارته، نعمره بماذا؟! بالعلماء وطلاب العلم، بالعبادة وقراءة القرآن، نعمره بالمحاضرات والدروس الدينية والعلمية ومجالس الذكر، تلك هي مجالس الصالحين التي تبحث عنها الملائكة، إنها مجالس الذكر والعلم.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله عز وجل، وإذا جاء الموت طالبَ العلم وهو على هذا الحال مات وهو شهيد، ومن طلب العلم فقد بايع الله عز وجل.
وتذكروا أيضًا أن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَج أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بأولي العلم على أجلّ وأعظم مشهود عليه وهو توحيده تبارك وتعالى، فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وهذا يدلّ على شرفهم وعلى منزلتهم.
عباد الله، سعيد رضي الله عنه وأرضاه كان يسرد الصومَ سردًا، وما نودي للصّلاة منذ أربعين سنة إلا وهو مستعدّ في المسجد، وصلّى الفجر بوضوء العشاء خمسين سنَة.
لا أعرف ـ أيها المؤمنون ـ كيف أتحدث اليوم عن أحوالنا، الفساد عشّشَ في بيوتنا من كل ناحية، فساد اجتماعي غريب، لا أظن أن أمة الإسلام قد عرفته من قبل، الحياة الزوجية في مجتمعنا لا تقوم على أسس متينة، لا تقوم على الإسلام، ومن هنا فهي سريعة الانحدار، فجوة كبيرة بين الابن وأبيه، بين البنت وأمها، بين الإخوة والأخوات، بين أفراد العائلة بشكل عام، ولا أحد يقوم بالإصلاح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي نهاية المطاف ولات ساعة مندم.
البنت الفلانية تفرّ من بيت أبيها مع عشيقها وحبيبها، والرجل الفلاني يخون الحياة الزوجية وهو لاه في المعاصي والآثام، شرب الخمر، ولعب القمار، وغياب طوال الليل عن البيت، والبنات يسهرن إلى قبيل الفجر على الفضائيات، إنهم لا يقومون الليل، ولا يصلون بالليل، ولا حتى الصلوات المفروضة، بينما تراهم يسرحون ويمرحون ويسهرون، وهم في غيّهم يعمهون، والنتيجة ماذا؟ فساد وانحلال وغش واحتيال، وكلنا نشكو الفساد الاجتماعي، الفساد الأسري، ولكن لا أحد يضع الحلول للخروج من هذه الفوضى.
عباد الله، إذا أردتم الحلّ فعودوا إلى الله، واصطلحوا مع الله، إنّ الله يقبل التوبة عن عباده، فإذا كنت ـ أيها المسلم ـ قد أخطأت فعد إلى الله، أصلح النية والعمل والله يقبل توبتك، كفاك لهوًا ولعبًا، ورحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم ذمها وخطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدًا.
حاسبوا أنفسكم، فإن محاسبة النفس تحضّ على الأعمال الصالحة وتضعف الأعمال السيئة، وابكوا على أعمالكم السيئة حتى تقبل توبتكم قبل أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58].
استمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لهذا الحوار الذي دار بين الفُضَيل بين عِياض وبين أحد الرجال:
قال الفُضَيل: كم سنة أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، توشك أن تصل، فقال الرجل: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فقال الفُضَيل: أتعرف تفسير الآية؟! قال: نعم عرفت، إني لله عبد، وإني إليه راجع، قال: من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول، فليُعِدّ للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحيلة يرحمك الله؟ قال: يسير على من يسّره الله عليه، أن تحسن فيما يبقى، يغفر الله لك فيما مضى.
عباد الله، سعيد بن المُسَيّب طلب الخليفة عبد الملك بن مروان يد ابنته لابنه الوليد، وأرسل له رسولاً يبلغه بذلك، ووصل الرسول، وبدأ يكيل الثناء والإغراء، ويفتح أبواب الدنيا أمام عينه. أتعرفون ـ يا عباد الله ـ ماذا كان يقول سعيد؟! كان يردد قوله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]. ما يكون عبد الملك؟! وما تكون الدنيا؟! كانت الدنيا في نظره لا تساوي شيئًا.
أيها المسلم،
لا تركننّ إلى القصور الفاخرة واذكر عظامك حين تمسي ناخِرة
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل يا رب إنّ العيـشَ عيشُ الآخرة
ويرفع العَلَم الهُمَام رأسه الشريف ويقول لرسول الخليفة: بلّغ عبد الملك أني أرفض هذا الزواج رفضًا باتًّا، وقال عبارته المشهورة: لا أزوج ابنتي في دار الحكم خشية أن آتي معها يوم القيامة مسلسلين بسلاسل من حديد في نار جهنم.
أيها المسلم، ويرجع سعيد إلى بيته ويجد ابنته العفيفة الطاهرة جالسة وحدها، فقال لها: ماذا كنت تفعلين يا ابنتي؟! قالت: كنت أقرأ القرآن. هكذا كانت البيوت عامرة، كانت البركة فيها، وكلام الله يحميها، وأما اليوم فيوجد من المسلمين من لا يقرأ القرآن، وفيهم من لا يقرؤه إلا في شهر رمضان، وكأنهم لا يقرؤون قول الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن بيت خَرِب.
قالت ابنة سعيد: كنت أقرأ القرآن، قال سعيد: هل فهمتِ ما قرأتِ؟! قالت: نعم إلا آية واحدة، وما هي يا ابنتي؟ قالت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، لقد عرفت حسنة الآخرة وهي الجنة، فما هي حسنة الدنيا يا أبتاه؟! قال لها: الزوجة الصالحة للزوج الصالح.
عباد الله، ويجلس سعيد في بيته المتواضع بعدما رفض عرض الخليفة، ويدخل عليه تلميذ له فقير، ضم ثوبه أربعين رقعة مختلفة الألوان، وكل رقعة منها تساوي اليوم وسامًا من الدرجة الأولى في القوات المسلحة، ويكفيه شرفًا وفخرًا أنه غني بتقوى الله، يكفيه عزًّا وكرامة أن لديه معرفة بالله تعالى.
النفس تَجـزع أن تكـون فقيرة والفقر خير من غـنى يطغيهـا
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما فِي الأرض لا يكفيها
ويسأل سعيدُ تلميذَه عن سبب غيابه عن درس العلم، فأخبره بأن زوجته قد توفيت، ويدخل سعيد على ابنته صاحبة الشرف والعفاف والحياء، ويقول لها: ما رأيك في ابن أبي وداعة؟ أترضين به أن يكون لك زوجًا؟! هذا هو الشرع، أن تُعطَى البنت حقها في اختيار زوجها، ومن هنا نقولها: لا يجوز إجبار وإكراه البنات على الزواج، هي صاحبة القرار، هي صاحبة الاختيار. فقالت بنت سعيد بلسان الأدب والحياء: ما رأيك أنت يا أبتاه؟ فقال: مؤمن تقي إن شاء الله، قالت: لقد اخترته على بركة الله.
أيها المؤمنون، ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
ويخرج سعيد إلى تلميذه ويسأله: ألك في الزواج حاجة؟ فقال له: ومن التي ترضى أن تتزوجني يا أستاذ؟! فقال له: إن أردت فسوف أزوّجك ابنتي، ابنته التي رفض أن يزوّجها لابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان.
عباد الله، هل يوجد اليومَ في مجتمعنا من يفعل ذلك؟!
وتمّ عقد الزواج وابن أبي وداعة يكاد لا يصدّق، الدنيا كلها تتطاير فرحًا أمام عينيه، وفي المساء يذهب سعيد بابنته إلى بيت تلميذه ويطرق الباب، ويظن التلميذ أن الشيخ قد تراجع في عقد الزواج، ويفتح الباب وسعيد من ورائه ابنته ويقول لها: ادخلي ـ يا ابنتي ـ بارك الله لكما في ليلتكما، ويغلق الباب وينصرف.
عباد الله، أتعرفون لماذا فعل سعيد ذلك؟! لأن السعادة في رأيه مملكة تكون في القلب، لا دخل لها بماديات الحياة، وصدق من قال:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
لم يكلفه مسكنًا باهظًا ولا أثاثًا فاخرًا، ومن هنا فإني أوجه إلى الآباء وأولياء الأمور أن يتّقوا الله في شبابنا، أن يتقوا الله عندما يزوجون بناتهم، فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها.
انظروا إلى سعادة الأولادِ وتربيتهم، ولا تنظروا إلى مادية الحياة الفانية، فما عندكم ينفد وما عند الله باق.
انظروا إلى سعادة أبنائكم وكيف تكون حياتهم، هل هي قائمة على الإسلام؟! هل يطبق فيها منهج الله؟! هل بيوتهم خالية من أدوات الفساد والانحلال الخلقي؟!
أتدرون ـ يا عباد الله ـ عندما دخل ابن أبي وداعة على ابنة سعيد توقّف عن حضور دروسه بشكل استمراريّ، أتعرفون لماذا؟! لأنه وجد عندها علم سعيد، تعلّمت البنت علم أبيها.
عباد الله، هذه بيوت آمنت وأسلمت فأمنت من الخوف، بيوت قرأ أهلها القرآن، وفهموا مراده، وتدبروا معانيه، فعلموا أن الحق لله سبحانه وتعالى، قوم عرفوا الله فعرفهم الله تعالى، ووصلوا ما بينهم وبين الله فوصلهم الله، وتواضعوا لله فرفعهم الله، وعملوا وأخلصوا لله فكان الله معهم في كل شيء. لم يعرفوا الهزائم أمام أعدائهم، أتدرون لماذا يا عباد الله؟! لأن الله كان معهم، ومن كان الله معه فلن يهزم أبدًا.
سعيد هذا افترش المسجد ثلاثين سنة، لا تمر به ساعة إلا وهو مع الله والله معه، وصدق الله وهو يقول: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
عباد الله، جعلنا الله وإياكم ممن أسبل عليهم جلابيبَ الستر في الدنيا، واتّصل ذلك بالعفو عن جنايته في العقبى، إنه فعّال لما يريد.
|