.

اليوم م الموافق ‏17/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

رسالة إلى مسؤول

4339

الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد

الأبناء, التربية والتزكية

عبد العزيز بن محمد القنام

وادي الدواسر

9/1/1426

جامع النويعمة القديم

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية الاهتمام بالأولاد. 2- أسباب انحراف الأبناء. 3- عظم مسؤولية الأبوين في تربية أولادهم.

الخطبة الأولى

أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وذلك بامتثال أمره واجتنابه نهيه.

فيا أيُّها الإخوة في الله، من على هذا المنبر أوجه رسالة إلى مسؤول، نعم مسؤول، ومن هو هذا المسؤول؟ أتدري من هو هذا المسؤول؟ إنه أنت يا أخي، أنت المسؤول، المسؤول الأول عن بيتك وعن أبنائك وبناتك أمام الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي : ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته... والرجل راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته)). نعم كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فمن هذا المنبر أوجه لك هذه الرسالة الخاصة بتربية فئة غالية عليك جدا لا تقاس بثمن، هم فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد، ألا وهم الأولاد.

أيها الإخوة المؤمنون، إن أولادَنا ثمراتُ قلوبنا وفلذاتُ أكبادنا وهديةُ الله إلينا وزينةُ حياتنا والأثرُ الصالح الذي نُذكَر به إذا كانوا صالحين، وهم من كسبنا، ودعاؤهم من العمل الذي لا ينقطع بموتنا، قال رسول الله : ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لهُ)) رواه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.

فهذا رجلٌ يملك بستانًا فيه رياحينُ وأزهارُ، إذا تعاهدها صاحبها بالسقايةِ والرعايةِ ماذا سيحدث؟ ستنمُو وتينعُ كلَّ حينٍ بإذنِ الله، ولكن لو جعلها نسيًا منسيا وتركها وشأنهَا، فلم يُحطها بنُصحِه ورعايتهِ، فإنَّ الجميعَ ستتفق آراؤهم على أنَّ مآلَ هذا الرياحيِنُ والأزهارِ إلى الخسارة والبوار. وهكذا ـ أحبتي الكرام ـ هذه الرياحينُ هم أبناؤنا. روى النسائي في سننه عن الحسن عن بعض أصحاب رسول الله قال: يعني أنس بن مالك: دخلنا على رسول الله والحسن والحسين ينقلبان على بطنه، قال ويقول: ((ريحانتي من هذه الأمة)). وفلذاتُ أكبادِنا ومهجُ نفوسِنا وحباتُ قلوبنِا، هذه الرياحينُ إذا أحطتَها بنُصحك ورعايتك نلت ما ترجوهُ ـ بإذن الله تعالى ـ من برِّها وإحسانها في حياتك وبعد مماتك، وإن أهملتها وضيعتها فقد حاقَ بك الفساد، وما ربك بظلامٍ للعباد.

أيُّها الأبُ، لثقتي بحرصك الشديدِ على صلاحِ أبنائك واستقامِتهم وبرهم وإحسانهم، ولمعرفتي بخوفكَ العظيمِ من انحرافهم وضلالهم، فإنِّي أضعُ بين يديكَ بعضَ العواصفِ التي تعتري هذه الرياحين، والتي تُؤدي بطبعها إلى الميلانِ بها ذات اليمنِ وذات الشمال، وأحيانًا تجتثها من جُذورها، أضعُها بين يديك تنبيهًا وتحذيرًا، وإرشادًا وتذكيرا. وهذه العواصفُ التي هي بمثابةِ الأسباب التي تعتري أبناءَنا وتصدُهم عن الصراط السوي كثيرةٌ يصعبُ في هذه العُجالة حصرُها وتفصيلُ أجزائها، ولكن حسبي الإشارةُ، والإشارة تُغني عن العبارة، وهي ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

وأنا أذكرُ لك هذه الأسباب؛ لأنَّ معرفتها جزءٌ من العلاج، ولذلك كان حذيفةُ يسألُ رسولَ الله عن الشرِّ مخافة الوقوع فيه. وإذا عرفت الأسباب وتلك العواصفُ التي تُؤثر على سلوكِ ابنك فالواجبُ البعدُ عنها وعدمُ مواقعتِها حتى تسلم وتغنم بإذن الله تعالى، وتبرأ الذمةُ والتبعةُ عندما تقفُ بين يدي الواحدِ القهار، فيسألُك عن هؤلاءِ الرياحين: هل أحسنت رعايتَهم؟ وهل أديت الأمانةَ في توجيههم؟

ولعلمي بضخامةِ المسؤوليةِ وثقل التبعةِ كانت هذه الكلمات وهذهِ الإشارات، والتي أسألُ الله تعالى أن تكون نافعةً جامعة، كما أسألهُ سُبحانهُ أن يعينك على حُسن تربيتهم، وأن يُقرَّ عينَك بصلاحهم، والمرءُ إذا اجتهد في فعلِ الأسباب فالتوفيقُ بيد الملك الوهاب، وصلاحُ القلوبِ بيدِ علامِّ الغيوب.

أيُّها الآباءُ الكرام، أولُ هذه الأسباب: إهمالُهم في الذهابِ بهم والعودِة من مدارسهم، كلُّ ذلك رغبةً في النومِ والراحة والدعِةِ والسكون، أو الثقةِ الزائدة، فيرسلُ الأبُ ابنَهُ إمَّا مع زملائهِ الذين لا يعرفهم ولا يعرفُ أخلاقَهم، أو ثقةً بولدِ الجار أو مع السائق، فيكتسبُ الابنُ من جراءِ ذلك أخلاقَ هؤلاء، كما قال النبي : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل))، وكما قيل: الصاحبُ ساحب. فيتعلمُ الابنُ عادةَ التدخيِن أو سماعَ الغناء أو غيرها من العاداتِ المحرمة، كالألفاظِ البذيئة والأفعالِ القبيحة من جراءِ ذلك.

هذا أحدُ الأبناءِ لم يحفظ درسَ القرآنِ في حلقةِ تحفيظِ القرآن الكريم، فأرسلهُ المعلمُ لإدارة التحفيظ، وبعد أن دارَ الحديثُ معه ـ وهو في الصفِّ الخامس الابتدائي ـ تبين أنَّهُ يحفظُ أغنيةً لأحد المغنين، فسألتهُ: كيف استطعت أن تحفظَ كلَّ هذه الأبياتِ ولم تستطع أن تحفظَ الجُزءَ المقررَ عليك؟! فأجابَ: كنتُ أحضرُ مع سائقِِ جارنا، وكان يُسمعنا هذه الأغنيةَ كلَّما ركبنا معهُ. أبياتٌ كلٌها سخفٌ وهُراء، حفظها الابنُ من جراءِ ذهابِهِ للمدرسةِ ورجوعِه منها مع السائق، فهل يتنبهُ الآباءُ لذلك؟!

وفي تحقيقٍ أُجري في إحدى الصُحفِ المحليةِ عن التدخين تمت مقابلاتٌ مع عددٍ من المدخنين والمدخنات، سُئلت إحداهنَّ: كيف تعلمتِ عادةَ التدخين؟ فأجابت: اعتدتُ التدخين من السائق أولاً أثناءَ خروجي للمدرسةِ ووقتَ العودة، وكنتُ أغريهِ بالمالِ لئلاَّ يُخبرَ أهلي، واستمررتُ على هذا الحال حتى أدمنتُ التدخين، ولم أستطع أن أبتعدَ عنهُ إلى آخر كلامها. فهل يتنبهُ الآباءُ الكرام إلى ذلك؟! وهل يستيقظُ البعضُ من غفلتهِ ويفيقُ من سُباته؟!

ثانيًا: ومن أسبابِ انحرافهم: غيابُ الدورِ الأبويّ في الأسرةِ، وهو بدايةُ الانهيار، وصدق القائل:

ليس اليتيمُ من انتهى أبواه مِن  همّ الحياةِ وخلّفاهُ ذليلاً

إن اليتيمَ هو الذي تلقـى له   أُمًّا تخلّت أو أبًا مشغولاً

وغيابُ الدورِ الأبويِ إمَّا أن يكونَ غيابًا معنويًا أو حسيًا، أو غيابَ القدوةِ الصالحةِ، فغيابُهُ معنوي؛ يُصبحُ وجودُهُ كعدمه، فقط يقتصرُ دورُه على توفيرِ الحاجات وتلبيةِ الطلبات وتنفيذِ الرغبات، ويَرى أنَّهُ قد أحسن صُنعًا تجاهَ أُسرتِه وأولادِه، فلا مُناصحة للأبناء، ولا متابعةَ لهم، ولا محاسبةَ لأفعالهم.

وإمَّا أن يكون غيابُهُ حسيًا؛ فهو إمَّا أن يكون صاحبَ أسفارٍ وجولات، وإمَّا أن يكون صاحبَ مقاهٍ واستراحات أو سهراتٍ مع الأصدقاءِ لمتابعةِ القنواتِ الفاسدات، أو صاحبَ زوجةٍ ثانية، فيتخلى عن الأولى وعن متابعةِ أولاده.

أو يكون غيابَ القدوةِ الصالحةِ؛ فلا تكادُ تسمعُ منهُ إلا عبارات الشجبِ والاستنكار،ِ أو السبّ والاستحقار، يتعاطى الدُخانَ أمام أبنائهِ وبناته، يتخلفُ عن الصلاة، يُعاقرُ المحرمات، يستهينُ بالواجبات، فيا تُرى ما حالُ الأبناء المساكين مع هذا الأب؟! إذا كان محلُ القدوةِ بهذه المثابةِ فكيف سيكون الأبناء؟! إذا كان محلُ الأسوةِ بهذا السلوك كيف يستقيم الأبناء؟!! نعم الهدايةُ بيدِ الله تعالى، لكنَّ الله تعالى جعلَ لكلِّ شيءٍ سببا.

والطامةُ الكُبرى والبليةُ العُظمى حينما يحرصُ بعضُ الآباءِ ـ هداهم الله تعالى لطاعته ـ على عدمِِ صلاحِ أبنائهم، لماذا؟ حتى لا يُزعجهُ الابنُ بالمُناصحة والتذكير‍! فيقطعُ عليه حبلَ شهواتِه وملذاتِه، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

هذه حادثةٌ وقفتُ عليها بنفسي، وهي ـ إي وربي ـ مؤلمةٌ مبكية مُحزنة مُؤسفة. أحدُ الآباءِ عندما رأى علاماتِ الاستقامةِ والهداية ظهرت على ولده، هل حمد الله تعالى على هذه النعمة؟! هل شكرَ الله تعالى على استقامةِ ولده؟! كلا، بل قام أولاً بتحذيرهِ من الذهابِ إلى حلقةِ تحفيظ القرآن الكريم، ثُمَّ تحذيرِه من مجالسةِ أهلِها، ثُمَّ اشترى لهُ سيارة وأدخل في بيتهِ جهازَ الدش، وقد تحقق لهذا الأبُ ما يُريد، فقد انحرف الابنُ وتخلَّفَ عن الصلاة، وسيعلمُ هذا الأبُ عاقبةَ فعلِهِ وصنيعه، وما ربُك بظلامٍ للعبيد. وحتى تعلم ـ أيّها الأبُ الكريم ـ أننا لا نتكلمُ من فراغ، أو من عاطفةٍ جياشة، بل هذه هي الحقيقة، حقيقةُ خطورِة غيابِ الأب وتخليهِ عن مسؤولياتهِ، استمع إلى هذه الدراسات التالية:

أجريت دراسةٌ على المحكومِ عليهم بجرائمِ الزنا واللواط والاغتصاب وهتكِ الأعراضِ في الإصلاحياتِ المركزية بالمملكة، فتبينَ أنَّ ستةَ عشرَ بالمائةِ من الآباءِ كانوا يقومون بمهمةِ الضبطِ الاجتماعي لأبنائهم مرتكبي الجرائم، والباقي ما حالهُم؟! لقد تركوا الحبلَ على الغارب، فأصبحوا يتخبطون في لججِ الإجرام، ويخوضون في مستنقعاتِ الحرام.

وفي دراسةٍ أُخرى في إصلاحياتِ النساء بالرياضِ وجدةَ والدمام تبينَ أن ستًا وثمانين بالمائة من مرتكبات الجرائمِ من النساء يتغيب آباؤهنَّ عن المنزلِ باستمرار. فهل يعي هذا الكلامَ أولئكَ الذين يسهرون إلى بزوغِ الفجر أو قريبًا منهُ خارجَ بيوتهم؟! هل يعي هذا الكلامَ أولئك الذين يسهرون على القنواتِ في الاستراحات؟! هل يتنبهُ أصحابُ التجاراتِ والأموالِ إلى خُطورةِ الانشغالِ عن الأهلِ والأولاد؟! هل يتنبهُ المعددون المفرطونَ عاقبةََ تخليهم عن مسؤولياتِهم تجاهَ أبنائهم؟! يقول النبي : ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته... والرجل راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته))، فهل يُقدرُ الآباءُ هذه المسؤولية، فيُراجعوا أنفسَهم؟! فست وثمانون بالمائة نسبةٌ يجبُ أن يقفَ عندها الآباءُ جيدًا، قبل أن يحلَّ الفأسُ بالرأس، وقبل أن يندمَ في ساعةٍ لا ينفعُ فيها الندم، فاللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ، والسعيدُ من وُعظَ بغيره، والشقيُّ من وُعظَ غيرهُ به.

ثالثًا: ومن أسبابِ الانحراف أيضًا: العاطفةُ الزائدةُ التي تجعلُ الآباءَ يتغاضون عن توجهات أبنائهم، ويتساهلونَ ببداياتها، أو أنَّهم يتحرجون من مواجهتهم بالنصح والإرشاد وبيانِ الأخطاءِ التي تلاحظُ على الأبناءِ وبأسلوبٍ أبويٍّ حكيم. وهذا يُخالفُ ما كان عليه منهاجُ رسول الله في التعامل مع الصغار، خذ مثلاً عندما رأى النبي عمر بن أبي سلمة تطيشُ يدُهُ في الصحفة، فقال لهُ النبي مبادرًا لنُصحه وتوجيههِ: ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) رواه البخاري. ولما رأى النبيُ صبيًا قد حُلق بعضُ رأسه وتُرك بعضُه لم يسكت وقال: هؤلاءِ أطفالٌ صغار، أو هؤلاءِ في سنِ المراهقة، بل نهاهم عن ذلك وقال: ((احلقوهُ كلَهُ أو اتركوه كلَه)) رواه النسائي. قارن بين هذا وبين ما عليه أبناءُ المسلمين اليوم من قصاتٍ غربية حتى وهم صغار، والذي يفعلُ ذلك بهم همُ الآباء فالله المستعان.

لمَّا أخذ الحسنُ بنُ علي رضي الله عنهما تمرةً من تمرِ الصدقة فجعلها في فيه قال النبي له: ((كخٍ كخ)) ليطرحها، ثم قال: ((أما شعرت أنَّا لا نأكلُ الصدقة؟!)) رواه البخاري. ولم تمنعهُ العاطفةُ الأبويةُ من أن يُحذِّر ولدَه من أكلِ هذه التمرةِ. فأين الذين يرون أولادَهم يُشاهدون الأفلامَ وينامون عن الصلاة؟! أين نصحُهم وإرشادُهم وتذكيرُهم بالله تعالى؟!

لما دخل ابنٌ لعمرَ بنِ الخطابِ وقد ترجَّل ولبس ثيابًا حسانًا ضربهُ عمرُ بالدرةِ حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربتهُ؟ قال: رأيتهُ قد أعجبتهُ نفسُهُ فأحببتُ أن أُصغرها إليه. ولمَّا دخل ابنٌ لعبد ِالله بنِ مسعود وكان لابسًا لقميصٍ من حرير، قال له: من كساك هذا؟ قال: أمي، فقام فشقَّهُ نصفين، وقال له: قل لأمك: تكسوك غير هذا.

ونحنُ الآن نرى ارتداءَ بعضِِ أبنائنا ملابسَ غربية، والأبُ يُشاهدُ ابنَهُ على هذه الهيئةِ ولا يحركُ ساكنًا، حتى النصيحة والكلمة الطيبة قد تكون معدومةً، فالله المستعان.

أيُّها الآباء الكرام، إنَّ العطفَ الأبويَ على الابن يجبُ أن يكون بالقدرِ المعقول والطريقة الحكيمة، عطفٌ مقرونٌ بالحكمة، وحبٌ ممزوجٌ بالشدَّة، لا إفراطَ ولا تفريط، لا يتركُ الابن يعبثُ بما يشاء، والابنُ كذلك إذا حُرم من العطف فإنَّهُ يشذُّ كما يشذُّ إذا زاد عليه العطف، ولا يصلحهُ إلا جرعاتُ حزمٍ ورشفاتُ حنانٍ وسماتُ عطفٍ ولمساتُ توجيهٍ وتثقيف وإرشاد. قال بعضُ السلف: "إنَّ خيَر الآباءِ من لم يدعُهُ الحبُ إلى التفريط، وخيرُ الأبناء من لم يدعُهُ التقصيرُ إلى العقوق"، وصدق القائل:

فَقَسَا ليزدجِروا ومن يكُ حازمًا فليقسُ أحيانًا على من يَرحم

تلك القسوةُ الرحيمةُ أو الرحمة القاسيةُ من أسُس التربيةِ المنزليةِ التي تعتمد عليها الأسرة، أمَّا إذا تخلت الأسرةُ عن هذا الأسلوب ففرطت في العقاب أو أفرطت في الحنو اهتزت شخصيةُ الأبناءِ، واستخفوا بالمسؤولية، وقد ثبت ذلك أيضًا من جهة الدراسات، فقد أجريت دراسة في إصلاحيةِ الحائرِ بمدينة الرياض على المحكومِ عليهم بارتكاب قضايا متعددةٍ كالمخدراتِ والسُكرِ والسرقةِ والمضارباتِ والقتلِ والتزوير، ِفوجد أن نسبةَ أحدَ عشرَ بالمائة كانوا يجدون عقابًا من قبل والديهم عند ارتكابهم مخالفاتٍ غيرَ مقبولةٍ في الأسرة، بينما الغالبيةُ ذكرت أنَّهم لم يجدوا عقابًا من قبل والديهم على تصرفات سلوكيةٍ سيئة في الأسرة، مما جعلهم يتمادون في ارتكابِ مخالفاتٍ خارجَ الأسرةِ وعلى مستوى المجتمع. وأشارت تلك الدراسةُ إلى أن معاملةَ الوالدين لأبنائهم المجرمين كانت في الغالب متسامحةً وبعضها مجاملةً، مما انعكس سلبيًا على سلوكيات الأبناءِ في المستقبل.

فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طريق الصلاح وحذّر من طرق الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.

أيها الإخوة الأعزاء، إن الإسلامَ يحمِّلُ الأبوين مسؤوليةَ التربيةِ لأولادهم، قال رسولُ الله : ((كل مولود يولد على الْفِطرةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) أخرجه البخاري ومسلم.

فكلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة، وعلى الإيمانِ والتوحيدِ والحقِ والخيرِ والفضيلةِ والنفورِ من الباطلِ والشرِ والرذيلةِ، فلا يولدُ أحدٌ يهودِيًا ولا نصرانيًا، ولا فاسقًا ولا منافقًا، إنما يوجهه إلى ذلك أبواه ومربوه وأهله وجيرانه وأصحابه ومعلموه.

وينشأ ناشئ الفتيانِ فيـنا      على ما كان عوَّده أبوه

وما دان الفتى بحِجًى ولكن      يعوِّدهُ التدَيُّـنَ أقربوه

معاشرَ الآباء، يجب علينا أن نباشرَ تربيةَ أولادِنا مباشرةً دونَ وساطةٍ، بحيثُ نعلمُ مدخلَهم ومخرجَهم، ونعلمُ أينَ يذهبون، ومَنْ يُصاحِبُون ويُصَادِقُون، وماذا يفعلون؛ لأن الصغارَ لا يوجدُ لديهم الوعيُ الديني الكاملُ الذي يمنعهم من المنكرات والآثام، ولا توجدُ عندهم العقولُ الكاملةُ التي تمنعهم من الفساد والانحراف.

إن كثيرًا من الآباء والأمهات شُغِلُوا عن أبنائهم وبناتهم، فلم تَعُدْ لهم أوقاتٌ يجلسون فيها مع عائلاتهم يسألون عن أخلاقهم وأحوالهم، ولكنهم يهتمون في الغالب بمن يمرضُ فيداوونه، وبمن يجوعُ فيشبعونه، وغابَ عنهم أنهم في هذا الاهتمام يخدمون الجسمَ ويهملون النفسَ والقلبَ والروحَ، والحكيم يقول:

يـا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى بخدمتِهِ      أتطلبُ الربحَ مما فيه خسرانُ؟!

أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائلَها      فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ

عباد الله، إن أولادَنا أحوجُ إلى التربيةِ والتزكيةِ والرعايةِ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والدواءِ؛ لأن الطعامَ والشرابَ والدواءَ ينفعُ البدنَ، ويدفعُ عنه الأخطارَ بمشيئة الله تعالى، أما التربيةُ والتزكيةُ فإنها تحفظُ الدينَ والعقلَ والعرضَ والنسلَ والجسمَ والمالَ، وأفضلُ هدية يقدمها الوالدان والمربون لأولادهم هي التربيةُ والتأديب، قال رسولُ الله : (( مَا نَحَلَ وَالِدٌ ولدا من نَحْلٍ أفضل من أدب حسن)) أخرجه الترمذي.

وقد كان العلماءُ والخلفاءُ والصالحون يهتمون بذلك أعظمَ الاهتمام، قال عبدُ الملك بن مروان الخليفة الأموي ينصحُ مُؤَدِّبَ ولده: "علِّمْهم الصدقَ كما تعلّمُهُمُ القرآنَ، واحملْهمْ على الأخلاقِ الجميلةِ، وجالسْ بهم أشرافَ الرجال وأهلَ العلم منهم، واضرْبهم على الكذب، فإن الكذبَ يدعو إلى الفجور، وإن الفجورَ يدعو إلى النار".

أيها المسلمون، يجبُ علينا تعهدُ أبنائنا وبناتنا وتوجيهُهم وتعويدُهم على فعلِ الطاعات وتركِ المنكرات، وتقويةُ الوازع الديني في نفوسهم، قال رسولُ الله : ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وَفَرِّقُوا بينهم في المضاجع)) أخرجه أبو داود والحاكم. وقد كان أصحابُ النبي يدَرِّبُون أولادَهم ويروِّضُونَهم على الصلاةِ والصيامِ والأخلاقِ الحسنةِ، ويعلمونهم سيرةَ النبي العطرةَ، قال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ: كنا نعلِّمُ أولادَنا مَغازيَ رسولِ اللهِ كما نُعَلِّمُهُمُ السورةَ من القرآن.

وفي الختام: نصيحتي للآباء أن يهتموا بأولادهم تربيةً وتعليمًا، وأن لا يسْلموهم لأناسٍ غيرِ ثقاتٍ ولا طيبين من خدم أو معلمين، وبخاصة إذا كانوا كافرين أو فاسقين، وأن لا يتيحوا لأولادهم فُرَصَ مشاهدةِ الأفلامِ والقنواتِ والمجلاتِ والإنترنت وغيرها من الوسائل التي تدمر الخُلُق والدين. كما ينبغي حفظُهم من أصحابِ السوءِ ورفقاءِ الشر أهلِ المعاصي والفواحشِ والمنكراتِ والمسكرات والمخدرات وتضييعِ الأخلاقِ والأوقات؛ لأن الأمة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان وتداعي الأمم عليها إلا بتضييع نشئها والتفريط في أبنائها وبناتها، فاحفظوهم ـ عباد الله ـ وأصلحوهم حتى يكونوا صالحين مصلحين هادين مهديين غيرَ ضالين ولا مضلين. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا، اللهم لا تَدَعْنا في غَمْرَة، ولا تَأْخُذْنا على غِرَّة، ولا تجعلْنا من الغافلين.

عباد الله، إني داع فأمنوا. اللهمَّ أصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا، اللهمَّ اجعلهم صالحين مصلحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهمَّ اكفهم شرَّ الأشرار وكيد الفجار يا عزيزُ يا غفَّار. اللهمَّ حبب إليهم الإيمان وزينهُ في قلوبهم...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً