.

اليوم م الموافق ‏24/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

فتنة المال

2967

الرقاق والأخلاق والآداب

الفتن

داود بن أحمد العلواني

جدة

الأمير منصور

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- كسب المال من طرق خبيثة. 2- التحذير من تعلق القلب بالمال وجمعه. 3- الحرص والطمع من صفات الإنسان. 4- زهد النبي . 5- طالب المال منهوم لا يشبع.

الخطبة الأولى

الحمد لله الملك الكريم الرزاق، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ويمتحن بالمال والأولاد. سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أحمده وأشكره على نعمائه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن، احذروا ـ يا عباد الله ـ كل ما يصدكم عن الله من مال وأهل وولد، واذكروا دومًا قول الله تبارك وتعالى: وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28].

فالمال والأولاد ـ عباد الله ـ اختبار وابتلاء من الله سبحانه وتعالى لعباده، وليس المال كما يعتقد البعض مقياس السعادة والنجاح، وليس عنوان الوجاهة والفلاح، كما أنه ليس غاية، فليس كل من أعطي المال سعيدًا، ولا كل من حرمه شقيًا.

فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن فتنة المال من الفتن الكبيرة التي ابتلي بها كثير من الناس، وقلَّ من يسلم منها، بل قلَّ من يتحرى في أسباب الحصول على المال أمن حرام هو أم من الحلال، وذلك مصداق ما أخبر به رسول الله حيث قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه من المال: أمن الحلال، أم من الحرام))[1].

فيا عباد الله، إن مما يندى له الجبين ويبعث أشد الأسى في قلوب المؤمنين ما يرى ويشاهد من المشاكل والنزاع الذي يؤدي أغلب الأحيان إلى السب والشتم والاقتتال بين المسلم وأخيه المسلم، ورسول الله يقول: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) الحديث، وكل ذلك بسبب عرض زائل ودنيا فانية تعلقت بها القلوب في أيام طغت فيها المادة على كل القيم، فأصبح همُّ الإنسان كسب المال بأي وجه من الوجوه متخذًا وسيلة الغش والحيَل والطرق الملتوية والكذب والرشوة للحصول على المال، وكأنه خلق للمال والدنيا فقط، متناسيًا الغاية التي خلق من أجلها، وإن المال وسيلة وليس غاية، كما أنه بداية وليس نهاية، فالمال مال الله، والحساب غدًا عند الله.

فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ من الانزلاق في فتنة المال الحرام وشبه الحرام، فتصرفوا عمركم في جمعه، فيوردكم أتعس الموارد المهلكة، فتخسرون دينكم من أجل دنياكم كما أخبر رسول الله حيث قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا))[2]، عياذًا بك يا رب.

إنها فتن مظلمة تعمي الأبصار والقلوب، لا نور فيها، تؤثر في عقيدة الإنسان تأثيرًا بالغًا ما بين عشية وضحاها، فاحذروا ـ عباد الله ـ المال الحرام وحبّ الدنيا وسيطرة المادة على النفوس، فإنها أشد فتكًا بالذمم والأعراض والكرامة وسائر القيم الإسلامية، فكم نشاهد من فضيلة ضاعت بسبب المال، وكم من كرامة ديست وخلق مثالي قد وضع على حطام الدنيا الزائل.

وقد شبه رسولنا الكريم الحرص على المال والشرف بأنه يفسد الدين أكثر مما يفسد الذئب الجائع إذا أرسل في قطيع الغنم فقال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه))[3].

عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن كسب المال بالحلال والتمتع بطيبات الدنيا التي أحلها الله ليس ذلك بحرام، بل إن طلب المعيشة فرض على العباد من أجل التقوي على طاعة الله تعالى، ولكن ذلك يصبح حرامًا إذا كان شاغلاً عن طاعة الله والالتزام بسنة رسوله والاستعداد للدار الأخرى.

فإن الحرص طبيعة في الإنسان كما قال رسول الله في الحديث الصحيح من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يهرم ابن آدم وتشبّ معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر))[4]، اللهم ثبتنا على الحق وألحقنا بالصالحين.

وقال رسول الله : ((لو أن لابن آدم مثل واد من ذهب مالاً لأحب أن يكون إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))[5]، اللهم تب علينا أجمعين وتوفنا مسلمين.

فيا أيها الناس، رويدكم في الدنيا، فإن حب المال رأس كل خطيئة، والتكالب على الدنيا أساس كل بلية، وما سميت هذه الدنيا إلا لأنها دنية، فاجعلوا ـ عباد الله ـ جل همكم الدار الآخرة، ولا تنسوا نصيبكم من الدنيا، واعلموا أن أرزاقكم مقسومة، وآجالكم محتومة، وأن ربكم جل شأنه طلب منكم في كتابه الكريم بقوله تعالى: وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا [القصص:77]، كما بين لنا قيمة المال عنده فقال: وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء ٱلضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءامِنُونَ [سبأ:37].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 



[1] رواه البخاري في البيوع، باب: من لم يبال من حيث كسب المال (3/6).

[2] رواه مسلم في الإيمان، باب: الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118).

[3] رواه أحمد (3/460)، والترمذي في الزهد، باب: حرص المرء على المال والشرف لدينه (2377).

[4] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر (7/171)، ومسلم في الزكاة، باب: الحرص على الدنيا (1047).

[5] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: ما يتقى من فتنة المال (7/175)، ومسلم في الزكاة، باب: لو أن لابن آدم واديان لابتغى ثالثًا (1049).

الخطبة الثانية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.

أما بعد: فيا عباد الله، صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام تباعًا حتى قبض[1] أي: رسول الله . وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله نار، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء[2]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يبيت وأهله الليالي المتتابعة طاوين لا يجدون العشاء[3].

فيا أيها الناس، هكذا كان نبيكم ومرشدكم يعيش زاهدًا في الدنيا لم يشبع منها، وليس ذلك لعدم مقدرته وعجزه، فقد كان باستطاعته عليه الصلاة والسلام أن يكون من أغنى الأغنياء، ويضاهي بل ويفوق ويعلو في دنياه ملك كسرى وقيصر، ولكنه لم يكن يريد ذلك رغبة منه، لا لعدم قدرته على ذلك، ولا أدل على ما أقول من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها المتقدم أن رسول الله وأهل بيته كان عيشهم الأسودان التمر والماء، فصلوات الله وسلامه عليه.

فيا عباد الله، اتقوا الله، وازهدوا في الدنيا الفانية متأسين بنبيكم وصحابته، كما ورد: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس))، واعلموا أن طالب المال كشارب ماء البحر، كلما زاد شربًا منه زاد عطشًا حتى يقتله ويهلكه.

وهذا مثل من يأخذ المال بغير حقه بأيّ وجه من الوجوه المحرمة، فلا يقنع منه بقليل ولا كثير، فيصاب بالظمأ الدائم إليه، ويستمرئ الحرام حتى يقع فيه، ويقول رسول الله : ((إن روح القدس نفث في روعي أن لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))، وفي رواية: ((فإن رزق الله لا يطلب بالحرام))، فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.

وفيما ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال في أبياته:

إنّ لله عـبـادًا فـطنـا       طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيـها فلما علموا        أنهـا ليـست لحيّ وطنا

جعلوهـا لُجة واتَّخذوا        صالِح الأعمال فيها سفنا

ويقول الإمام الذهبي صاحب كتاب الكبائر رحمه الله:

أما والله لـو علم الأنـام      لما خلقوا لما هجدوا وناموا

لقد خلقوا لأمر لو رأيتهم      عيون قلوبهم ماتوا وهاموا

مَمـات ثُمّ قبْر ثُمّ حشـر     وتوبيـخ وأهوال عظـام

ليوم الحشر قد عملت رجال    فصلوا من مَخافته وصاموا

ونَحن إذا أمـرنا أو نهيـنا    كأهل الكهف أيقاظ نيـام

اللهم صل وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، اللهم وفقنا للقناعة بالحلال القليل من هذه الدنيا، وجنبنا الحرام، وارزقنا التقوى والاستعداد ليوم الرحيل...



[1] رواه البخاري في الأطعمة، باب: ما كان النبي وأصحابه يأكلون (6/204)، ومسلم في الزهد (2976).

[2] رواه البخاري في الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي وأصحابه وتخليهم عن الدنيا؟ (7/179)، ومسلم في الزهد (2970).

[3] رواه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في معيشة النبي (2361)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً