.

اليوم م الموافق ‏17/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

يوم النصر العظيم وفضل يوم عاشوراء

4342

الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد

البدع والمحدثات, الصحابة, فضائل الأزمنة والأمكنة

عبد العزيز بن محمد القنام

وادي الدواسر

9/1/1426

جامع النويعمة القديم

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- البلاء وحِكمه. 2- قصة موسى عليه السلام مع فرعون. 3- دروس وعبر مستفادة من قصة موسى مع فرعون. 4- مشروعية صيام يوم عاشوراء. 5- فضل صيام يوم عاشوراء، وفضل شهر الله المحرم . 6- بدع ومخالفات تقع في يوم عاشوراء. 7- مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة رضي الله عنهم.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، ثقوا بنصر الله إذا توفرت أسبابه، من الصدق والإخلاص والاستقامة على شرعه والتضرع بين يديه ورجائه والخوف منه وحده دون سواه.

أيها المسلمون، عاشوراء يوم النصر العظيم، ويوم الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، قديم قدم البشرية ذاتها، ولن يزال مستعرًا مشبوبًا إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وقال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]. فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم وصبرهم وجهادهم وبذلهم. فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق, ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل. ولقد قصَّ الله لنا فصولاً كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين.

عباد الله، ومن هذه القصص العظيمة قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون مصر في عهده، والتي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعًا، وهي أكثر القَصص القرآني تكرارًا؛ وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول من صناديد قريش وفراعين هذه الأمة, ولما فيها من التسلية له وللمؤمنين حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة والدروس والحكم الباهرة والحجج والآيات القاطعة.

وتبدأ قصة موسى مع فرعون منذ أن كان موسى حملاً في بطن أمه، فقد قيل لفرعون: إن مولودًا من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وقد نزح إسرائيل وأولاده من الشام إلى مصر في عهد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان عددهم آنذاك ثمانين شخصًا، ثم لم يزل عددهم ينمو ونسلهم يتكاثر حتى بلغوا في عهد فرعون الطاغية ستمائة ألف إنسان.

وعندما أخبِر فرعون أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل، أصدر أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، حذرًا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر، وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. واحترز فرعون كل الاحتراز أن لا يوجد هذا الغلام، حتى جعل رجالاً وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه من ساعته. وكان هارون عليه السلام قد ولد قبل بدء هذه المحنة، فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى عليه السلام فإنه لما حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفًا عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وركبها من الهمّ والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان خوفها عليه أضعاف أضعاف فرحها بقدومه، ولكن الله جل وعلا ألهمها بما يثبّت به فؤادها، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فاستجابت أم موسى لهذا الإلهام، وصنعت لابنها صندوقًا وألقته في نهر النيل، حيث كانت دارها مجاورة له، ألقته في النهر وكأنما ألقت معه عقلها وقلبها، فأصبح صدرها خاليًا من الطّمأنينة، خاليًا من الرّاحة والاستقرار، ولولا أنّ الله ربط على قلبها بالإيمان وشدّ عزمها باليقين، لكشفت السر وأفسدت التدبير، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، ويمضي الموج بالوليد الضعيف داخل الصندوق، يحفه الله بعنايته، ويكلؤه بحفظه ورعايته، حتى بلغ قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا التابوت وجدوا فيه ذلك الغلام الضعيف، ولكن رب الأرباب ومالك القلوب والألباب يلقي في قلب آسية زوجة فرعون فيضًا من الرحمة والرأفة والحنان على هذا الطفل الرضيع، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:9]، وكانت آسيا عاقرًا لا تلد، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: كدناهم هذا الكيد وجعلناهم يلتقطون موسى ليكون لهم عدوًا وحزنا وهم لا يشعرون.

وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع والخير, فهداها الله بسببه، وجعلها من أهل جواره وجنته، ولكن هذا الطفل المحفوف بعناية الله يفاجئهم بأنه لا يقبل ثدي امرأة ليرضع، فحاروا في أمره، واجتهدوا في تغذيته بكل ممكن، وهو لا يزيدهم إلا عنتًا وحيرة ورفضًا واستعصاءً، وبينما هم كذلك إذا بأخته تقبل عليهم، وكانت أمها قد أمرتها بأن تتابع أخاها وهو في الصندوق، وأن تقفو أثره، لتعلم مستقره وتستطلع خبره، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:11، 12]، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وذهبوا معها إلى منزلهم، فلما رأته أمه ما كادت تصدق عينيها، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، فأخذ يرضع بنَهَم شديد، وهم في غاية الدهشة والسرور. وهكذا يأبى الله عز وجل إلا أن يحمل آل فرعون هذا الوليد إلى أمه التي خافت عليه منهم، ثم يعطوها مع ذلك أجرة إرضاعها له، ويتعهدوا وليدها بالتربية والرعاية، قال الله تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].

وما زالت الأيام تمضي والأعوام تترى، وكبر موسى وبلغ أشده، وآتاه الله حكمًا وعلمًا، فصار يأمر وينهى، ويقول فيسمع، ويشفع فيشفع، ولا غرو فهو ابن فرعون بالتبني، وهو ربيبه وواحد من أهل بيته، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14].
وبعد حين وقع في محنة عظيمة، حيث قتل رجلاً من قوم فرعون ما كان يريد قتله، وتخوف من الطلب، ففر هاربًا إلى أرض مدين، ولبث فيهم عشر سنين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر مع أهله، وفي الطريق إليها أكرمه الله برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وكلمه من غير واسطة ولا ترجمان، وأرسله إلى فرعون بالآيات القاطعات والسلطان المبين، ولكن فرعون عاند وكابر، فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:21-24]، وادعى أن ما جاء به موسى سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله، وجمع السحرة من جميع أنحاء مملكته، فألقوا ما عندهم من السحر، فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء:4]، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:118-122]، ولما انقطعت حجة فرعون وخاب كيده، وانكشف باطله وزيفه لجأ إلى القوة والبطش والتعذيب والتنكيل والملاحقة والتشريد وإرهاب الناس بالنار والحديد. إنه منطق الطغيان العاتي، كلما أعوزته الحجة وخذله البرهان وخاف أن يظهر الحق ويتمكن أهله ورواده.

ثم أرسل الله عز وجل على فرعون وقومه آيات عجيبة وعقوبات متنوعة، من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، ولكنها ـ والعياذ بالله ـ لم تزدهم إلا عنادًا واستكبارًا وظلمًا وعدوانًا، يقول الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ولما تمادى فرعون في طغيانه وإيذائه لموسى ومن معه أوحى الله إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام، فلما علم فرعون بخروجهم جمع جيشه وجند جنوده من شتى أنحاء مملكته ليلحقهم ويمحقهم في زعمه، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:53-56].

فخرج فرعون وجنوده في أثرهم، حتى أدركهم عند البحر الأحمر، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون [الشعراء:61]، فالبحر أمامهم، والعدو خلفهم، فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات: كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق ـ بإذن الله ـ اثني عشر طريقًا يابسًا، وصار هذا الماء السيال وتلك الأمواج العاتيات كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه وتكاملوا خارجين وتكامل فرعون وقومه داخلين أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين، وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:77-79]، وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، يقول الله تعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

ويستفاد من هذه القصة أن العاقبة للمتقين والنصر حليفهم متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51، 52].

ويستفاد منها كذلك أن الباطل مهما انتفخ وانتفش وتجبر وتغطرس وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه أو يرد كيده وباطله أو يهزم جنده وجحافله فإن مصيره إلى الهلاك وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدعي الألوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، ثم يحتقر موسى عليه السلام وهو النبي الصالح والداعية الناصح فيقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، ولكنه حين حل به العذاب لم يغن عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:25، 26].

فيا ترى متى وقع هذا الحدث العظيم وتحقق هذا النصر المبين؟! لقد كان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر الكريم شهر الله المحرم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسول الله وأمر بصيامه. وقد كان صيام يوم عاشوراء واجبًا قبل أن يفرض صيام رمضان، فلما فرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة.

تقول حفصة رضي الله عنها: أربع لم يكن رسول الله يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر. رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صيام عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم. متفق عليه.
وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فقال: ((صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا عن ابن عباس قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال: ((فإذا كان العام القابل إن شاء الله صمت التاسع))، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ، وفي صحيح مسلم أيضًا: ((خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده)).

قال ابن القيم: "فمراتب صومه ثلاث، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم". وبناءً عليه فإن إفراد العاشر وحده بالصوم جائز، وبه يحصل الأجر المذكور في تلك الأحاديث، والأكمل صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، حتى تحصل المخالفة لأهل الكتاب، وإن صمت يومًا قبله ويومًا بعده فهذا أحسن وأتم، حتى تستيقن صيام اليوم العاشر، خصوصًا إذا كان مشكوكًا في وقت دخول الشهر، ولأن السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما أن الصيام في شهر المحرم له خصوصية ومزية على ما سواه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)). وإن وافق عاشوراء يوم الجمعة أو السبت فلا بأس بصيامه في أحدهما؛ لأن النهي عن إفراد الجمعة أو السبت بالصيام إنما هو لمن صام من أجل أنه الجمعة أو السبت، أما إذا كان للصيام في أحدهما سبب شرعي يقتضيه كأن يوافق يوم عاشوراء أو يوم عرفة فلا حرج في الصيام حينئذ.

فاحتسبوا ـ أيها المؤمنون ـ وارغبوا في صيام عاشوراء رجاء أن تشملكم رحمة الله ومغفرته، وجددوا لله تعالى التوبة في كل حين. اللهم تب علينا واعف عنا وتجاوز عن خطيئاتنا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره، ما علمنا منه وما لم نعلم. كما نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ويجعلنا من المتقين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أما بعد: أيها المسلمون، إن لله سبحانه يختص بفضله من يشاء من عباده، وله سبحانه أن يفضل بعض الأزمان على بعض، وأن يخصها بمزيد عناية وكرم، ومن ذلك ما اختص به شهر محرم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمٰوٰت وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].

أيها المسلمون، لقد أنصتّم في الخطبة الأولى قصة موسى والطاغية فرعون، وكذلك فضل اليوم العاشر من شهر الله المحرم الذي وقعت فيه تلك الحادثة العظيمة.

ثم اعلموا أن من المفارقات العجيبة ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضًا من قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وآل بيته، حيث قتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا، ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين وما يقومون به من تعذيب أنفسهم وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين ولطم خدودهم ونتف شعورهم ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة والمنكرات الظاهرة ومن كبائر الذنوب ـ يا عباد الله ـ التي تبرأ رسول الله من مرتكبيها فقال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) متفق عليه، وعن أبي موسى أن رسول الله برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. متفق عليه. والصالقة هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب، والحالقة هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها، فكل عمل يدل على الجزع والتسخط وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم. ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة وتشويه لصورة الإسلام وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه، وقد رأينا بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وأن هذا ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام.

وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار وإعلان للبراءة منهم، وهذا ـ لعمرو الله ـ من أعظم الضلال وأنكر المنكرات، ويقابل هؤلاء فرقة أخرى ناصبوا الحسين العداوة والبغضاء، فيتخذون هذا اليوم عيدًا، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة. وهذا كله من البدع المحدثة والضلالات المنكرة، والبدعة لا تعالج بالبدعة، والخطأ لا يصحح بالخطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة، وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين ، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية، بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم".

فاتق الله أيها المسلم، وعليك بالسنة والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ولتعلم بأن منهج أهل السنة في الصحابة الكرام من آل البيت وغيرهم هو اعتقاد عدالتهم جميعًا، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد رسولها ؛ ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبته ونصرته وتبليغ هديه وسنته، ويدينون لله عز وجل بمحبتهم كلهم والترضي عن جميعهم، ويسكتون عما شجر بينهم وحصل لهم من الفتن والمحن، ويعتقدون أنهم جميعًا مجتهدون مريدون للحق، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، وإن أخطاءهم مهما عظمت فإنها مغمورة في بحور حسناتهم التي من أعظمها صحبتهم لرسول الله وجهادهم معه، رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا بهم في جنات النعيم.

ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي الكريم، كما أمركم بذلك المولى العزيز الرحيم، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أنا نسألك أن تنصرنا على أعدائنا حتى نسعد ونسر بظهور دينك...

 

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً