عباد الله، حديثنا اليوم عن الدار الآخرة؛ لأنني أرى النفوس قد سيطرت عليها المادةُ فأنستها ذكرَ الله تعالى، والقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجِلاؤها تلاوة القرآن وذكر الله تعالى. نعم يا عباد الله، ذكر الله والتيقن بأننا سنعرض على الله، وأن هذه الدنيا ليست نهاية المطاف، ولذلك وجب على العاقل أن يشتغل بما يقربه من مولاه، ويبتعد عن كل ما يخالف رضاه، وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن من علامة إعراض الله عن العبد أن يُشغله بما لا ينفعه، فاشتغلوا ـ أيها المؤمنون ـ بما يقرّبكم من الله تعالى، واجعلوا همّكم في رضاه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده، وصدق الله تعالى وهو يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
عباد الله، ينادي الله يوم القيامة: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، سبحان من يملك ذلك اليوم. اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ قول الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:13-18].
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نرى بعض مشاهد يوم القيامة: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26، 27]، إذا بلغت النفس التراقي، إذا ما أخذت الروح تُنتَزَعُ شيئًا فشيئًا من أَخْمص القدم حتى بلغت التراقي، والتراقي هي أعلى عظام الصدر.
والله جل في علاه أقسم بملائكة الموت التي تنتزع الروح انتزاعًا فقال: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:1-5]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: أقسم بالملائكة التي تنزع الروح، غَرْقًا أي: تغرق في نزعها فتنزعها من أَخْمص القدم إلى أعلى عظام الصدر، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا أي: التي تُخرِج الروح إخراجًا وتفصلها عن المادة، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا أي: بعد أن تُخرِجها تسبح بها إلى خالقها جلّ في علاه، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا أي: تتسابق على تنفيذ أمر الله.
وعندما تصل الروح إلى الحلقوم يُشرف على إخراجها ملك الموت، يتولى إخراجها بعدما تصل إلى الحلقوم وإلى أعلى عظام الصدر. والله سبحانه وتعالى يشرح لنا هذا الموقف شرحًا ما بعده شرح، ولا يفوقه تفصيل، فيقول سبحانه: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87]، إذا استغنيتم بقوّتكم عن الله فأرجعوها إلى البدن مرة أخرى، هل يستطيع أحد أن يُرجِع الروح؟ لا يستطيع أحد.
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:26-28]، علم الميت أن هذه الساعة هي ساعة الفراق، وقالت الملائكة بعضهم لبعض: من الذي يرقى بهذه الروح إلى الله تعالى؟ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29]، عندما يُكفّن ابن آدم، ويوضع على خشبة حَدْبَاء، يُنادَى في ذلك الموقف: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30]. إن الروح ترفرف على نعش الميت وتنادي وتقول: يا أهلي، يا أبنائي، لا تغرنكم الحياة الدنيا، فقد جمعت المال من الحرام والحلال، وتركته لكم تستمتعون به، وأُسأل عنه وحدي أمام الله.
عباد الله، لمّا حضرت الوفاةُ عمرَ بن عبد العزيز وذهب بعض الأصحاب ليعودوه، وكان عمر قد ترك من الأولاد خمسة عشر ولدًا، جلسوا معه وهو يعالج سكرات الموت، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ماذا تركت لأولادك؟ فماذا قال لهم؟ قال لهم أمير المؤمنين كلمة واحدة، قال: تركت لهم تقوى الله، وقيل: كيف؟ قال: إن كانوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم مالاً يستعينون به على معصية الله رب العالمين.
وصدق من قال:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيدُ
وتقوى الله خير الـزاد ذُخْرًا وعند الله للأتقـى مَزِيدُ
هذا هو عمر بن عبد العزيز الذي حكم الأمة الإسلامية من المشرق إلى المغرب، وقد أتته بناته ليلة العيد تقلن له: ليس عندنا ثياب نلبسها في العيد، فقال له خازن بيت المال: أأصرف لك شهرًا مقدَّما؟ فقال له عمر: ثكلتك أمك، وهل اطلعت على اللوح المحفوظ وعلمت أنني سأعيش شهرًا؟! يا بناتي، ليس العيد لمن لبس الجديد، وإنما العيد لمن خاف يوم الوعيد.
عباد الله، أين حُكّام الأمة اليوم ليتعلّموا درسًا في النزاهة والطهارة من عمر بن عبد العزيز؟! أموال الأمة تُنفق في الشهوات والملذّات والمفاسد، لماذا لا تُنفق أموال الأمة في إصلاحها وصلاحها في تعليمها ورُقيّها؟! لماذا لا تُنفق الأموال في إصلاح أحوال الأمة العلمية والتربوية؟!
أيها المسلم، تذكّر ليلتين اثنتين:
اذكر ليلةَ زفافك على زوجتك، وقد غسلتَ نفسك بنفسك، ولبستَ أفخر الثياب، وتعطّرت بالعطور الطيبة، وأغلقتَ بابك عليك وعلى زوجتك، وكأنك تقول: يا ليلُ طُل، يا نومُ زُل، يا صبح قِف ولا تطلع.
واذكر الليلة الثانية عندما تُحمَل لتوضع على خشبة الغسل، لن تمشي إليها بقدميك، وإنما تُحمل على أعناق الرجال، أين سمعك؟ أين بصرك؟ أين قوّتك؟ أين دهاؤك؟ أين جمالك؟ أين صحتك؟ من الذي يخلع عنك الثياب؟ أنت لا تقوى على خلع الثياب، وتنام عاريًا على خشبة الغسل، وأنت الذي كنت لا تسمح لأحد أن يكشف عورتك، ويقلّبك المغسّل كما يريد، العينان غارتا، والأنف مال، الوجه شُدّ بقطعة من القماش حتى لا يظلّ مفتوحًا، البطن يُضغط عليه بعنف ليصفّى ما فيه، الأعضاء البارزة قد انكمشت، الساقان تخشّبتا، المياه تُصبّ عليك وأنت لا تشكو من حرّها أو شدة بردها، وألبسوك ثوبًا جديدًا يُسمّى الكفن، تُلفّ فيه لفًّا، وتُربط من أعلى إلى أسفل، ثم تحمل على خشبة حَدْبَاء، لا قصور ولا دور ولا مال ولا جاه، الغني والفقير، والوزير والخفير، والكبير والصغير، وصاحب الجاه والحقير، كلهم سيُحملون على هذه الخشبة، ومن غير أن يأخذ معه شيئًا؛ لأنّ شرط العودة إلى الله أن يكونَ الإنسان متخليًّا عن كل شيء في الدنيا، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها.
عندما غادر الإنسان عالم الأرحام إلى عالم الدنيا كان حافيًا عاريًا، وعندما يعود يكون حافيًا عاريًا. إذًا أين الخدم والحشم؟! أين المال والعيال؟! أين الجاه والسلطان؟! وسبحان من قال: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، هكذا وراء الظهر، ولا يُرمَى وراء الظهر إلا كلّ تافهٍ حقير، وكل ما وراء الظهر لا ينفع، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، إلا من أتى الله بأعمال صالحة.
عباد الله، كيف سنُقبِل على الله وفينا من يأكل الربا، وفينا من يمارس الزنا، وفينا من يبيع أرضه وعرضه؟! كيف سنقف بين يدي الله وفينا من يفرط بالمسجد الأقصى، وفينا من يتآمر علينا من هنا وهناك؟! بالله عليكم، كيف سيكون ذلك وفينا من يفسد في الأرض ويقطع الأرحام، وفينا من لا يهتمّ بأمر المسلمين، وفينا من يعتدي على حرمات المسلمين، وفينا من يسرق وينهب ويغش؟!
استمعوا ـ يا عباد الله ـ لهذه القصة، وتعلموا منها العبرة:
ذهب عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله وقال له: يا رسول الله، إن ابني مالكًا ذهب معك غازيًا في سبيل الله ولم يعد، فماذا أصنع؟ لقد عاد الجيش ولم يعد مالك رضي الله عنه، قال رسول الله : ((يا عوف، أكثر أنت وزوجك من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله)). وذهب الرجل إلى زوجته التي ذهب وحيدها ولم يعد، فقالت له: ماذا أعطاك رسول الله يا عوف؟ قال لها: أوصاني أنا وأنتِ بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ماذا قالت المرأة المؤمنة الصابرة؟ قالت: لقد صدق رسول الله ، وجلسا يذكران الله بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأقبل الليل بظلامه، وطُرِق الباب، وقام عوف ليفتح فإذا بابنه مالك قد عاد، ووراءه رؤوس الأغنام ساقها غنيمة، فسأله أبوه: ما هذا؟ قال: إن القوم قد أخذوني وقيّدوني بالحديد وشدّوا أوثاقي، فلما جاء الليل حاولت الهروب فلم أستطع لضيق الحديد وثقله في يدي وقدمي، وفجأة شعرت بحلقات الحديد تتّسع شيئًا فشيئًا حتى أخرجت منها يديّ وقدميّ، وجئت إليكم بغنائم المشركين هذه، فقال له عوف: يا بني، إن المسافة بيننا وبين العدو طويلة، فكيف قطعتها في ليلة واحدة؟! فقال له ابنه مالك: يا أبت، والله عندما خرجت من السلاسل شعرت وكأن الملائكة تحملني على جناحيها. سبحان الله العظيم! وذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، وقبل أن يخبره قال له الرسول : ((أبشر يا عوف، فقد أنزل الله في شأنك قرآنًا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3])).
عباد الله، إنه الإيمان، الثقة بالله، صِدق في القول والعمل، ونحن لو أخلصنا القول والعمل لزال ما بنا من همّ وغمّ، ولعاد المسجد الأقصى إلى ساحة الإسلام.
عباد الله، جدير بمن الموت مصرعه والتراب مضجعه والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه والقبر مقرّه وبطن الأرض مستقرّه والقيامة موعده والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حول إلا حوله، ولا انتظار وتربص إلا له.
عباد الله، كم اختطف الموت أبًا من بنيه، وابنًا من أبيه، وأخًا من أخيه، وقريبًا من قريبه، وحبيبًا من حبيبه، وقائدًا من جنده، وأستاذًا من تلاميذه، فلم يستطع أحد أن يدفع عنه بنفس أو مال ولا جاه.
وكان من دعاء السلف رضي الله عنهم: اللهم لا تدعنا في غَمْرة، ولا تأخذنا على غِرّة، ولا تجعلنا من الغافلين.
|