أما بعد: اتقوا الله يا عباد الله، واحذروا أن تسلكوا من الفتن سبلها، والزموا كلمةَ التقوى، وكونوا أحق بها وأهلها، واتركوا عصبية الجاهلية، فقد جعلكم الله بالإسلام إخوانًا، وأمركم أن تتعاونوا على البر والتقوى سرًا وإعلانًا، ولا تكونوا من الذين أرجؤوا العمل بسوف وحتى، فتكونوا من الذين قال الله في حقهم: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ [الحشر:14].
واختموا ـ أيها المؤمنون ـ صحائف هذا العام بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الملك العلام، ولا تجعلوا أنفسكم الضعيفة لعذاب الله غرضًا، فإنكم لا تجدون أنفسًا تكون لكم عوضًا، وكونوا قومًا دعوا فأجابوا، وأمروا بالتزود فأصابوا، وأنذروا المعاد فأنابوا، وحذروا الإبعاد فلم يرتابوا، قبل أن تركبوا إلى الحفر مراكبًا صعابًا، وتتخذوا بدل القصور منازلاً خرابًا، هنالك تجدون ملائكة غضابًا، وتلبثون في الألحاد أعوامًا وأحقابًا، ثم تبعثون بعدما تكونون ترابًا، هنالك يكون الجزاء على ما أحصاه الله كتابًا، وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابًا، يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ مَـئَابًا إِنَّا أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرٰبًا [النبأ:38-40].
عباد الله، طوبى لمن كان كلامه مناجاة لله، وعمله معاملة مع الله، وفكره في تدبر آيات الله والاعتبار بصنع الله، ونيته خالصة لوجه الله، يزاحم العلماء بركبتيه، ويقبض على العلم بكلتا يديه، عبادته مؤسسة على القواعد وتصحيح العقائد.
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنعتبر ونتعلم من هذه الصورة الحية بين أستاذ وتلميذه، أما الأستاذ فهو الإمام شقيق البرقي رحمه الله تعالى، وأما التلميذ فهو حاتم الأصم رضي الله عنهما وأرضاهما جميعا، وكلاهما قد اشتهر بالزهد والصلاة، وقد دار بينهما هذا الحوار:
قال شقيق لحاتم: لقد صحبتني مدة، فماذا تعلمت؟ قال: تعلمت ثمانية مسائل:
أما الأولى: فإني نظرت إلى الخلق، فكل شخص له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلت محبوبي حسناتي، لتكون في القبر معي.
وأما الثانية: فإني نظرت في قول الله تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ [النازعات:40]، فأجهدتها في دفع الهوى حتى استوت على طاعة الله.
وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شيء له قيمة عنده يحفظه، ثم نظرت في قول الله تبارك وتعالى: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فكل ما وقع من شيء له قيمة وجهته إليه، ليبقى لي عنده.
وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والنسب والشرف وليس لشيء، فنظرت في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13]، فعملت بالتقوى لكي أكون عنده كريمًا.
وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يتحاسدون، فاعتبرت بقوله تبارك وتعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا [الزخرف:32]، فتركت الحسد.
وأما السادسة: رأيتهم يتعادون، فنظرت في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، فتركت عداوتهم، واتخذت الشيطان عدوًا.
وأما السابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق، فنظرت في قول الله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فاشتغلتُ بما له علي، وتركتُ ما لي عنده.
وأما الثامنة: فرأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وأعمالهم وصحة أبدانهم فتوكلت على المولى تبارك وتعالى.
فقال له الأستاذ: وفقك الله تعالى، فإني نظرت في عيون الكتب السماوية السابقة والقرآن العظيم، فوجدت جميع أنواع الخير تدور على هذه المسائل الثمانية.
فاتقوا الله يا عباد الله، اتقوا الله الذي إليه تحشرون، وراقبوه فإن الله خبير بما تعلمون، وأخلصوا لوجهه الأعمال فإنكم بذلك مطالبون، واعتمدوا الصدق في الأقوال والأعمال لعلكم تفلحون، ولا تأمنوا مكر الله، إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، أفلا تتدبرون في كتاب الله المكنون، وفي قوله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وفي قوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]؟! فالله به كفر الجاحدون وخاب الغافلون.
وقد مدح الله تبارك وتعالى الذي آمنوا وكانوا يتقون، وذم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، وأوضح الفرق بين الفريقين: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ [الحشر:20].
لقد دعانا الله إلى تقواه، فأين المتقون؟! وأبان لنا طريق الفوز والنجاة، فأين السالكون؟! وقص علينا في كتابه الكريم عاقبة العصاة، فأين المعتبرون؟! فاتقوا الله يا عباد الله، ومن فاته القرب من مولاه فهو محروم، إن كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، فلا تخدع نفسك ـ أيها المسلم ـ في صحة النظر، فجهل الإنسان بنفسه أضر الضرر وأعظم الخطر.
اللهم ارزقنا ما رزقت أولياءك من الاستغناء بك والافتقار إليك، وأكرمنا بما تكرمت به عليهم، واغفر لنا وارحمنا يا رب العالمين.
عباد الله، جعلنا الله وإياكم ممن تاب وأناب، وغفر لنا ذنوبنا، ووقانا وإياكم سوء الحساب.
أخرج الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج))، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44].
توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|