أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله, كلمة التقوى كلمةٌ من جوامع الكلِم، فهي مشتمِلة على كلّ خير، فهي أصلُ كلِّ خير وأساسُه. وحقيقة تقوى الله ـ كما فسّرها الصحابة ـ أن يُطاع الله فلا يعصَى, وأن يذكَر فلا يُنسى، وأن يشكَر فلا يكفَر. فمن أطاع اللهَ جل وعلا ولم يعصِه وأدام شكرَه وذكرَه دائمًا فهو المتّقي لله.
قال فيها بعضُ السلف: "حقيقةُ التقوى أن تعملَ بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو بذلك ثوابَ الله, وأن تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله".
فهذه حقيقةُ التقوى, تعمل بطاعة ربِّك على نورٍ وبصيرة, ترجو بهذا التقوى الثوابَ من الله, وتترك معاصيَ الله على بيّنة وبصيرةٍ تخاف بذلك من عقابِ الله، فتلك حقيقةُ التقوى, فليس التقوَى بالتحلِّي ولا بالتمني، ولكن ما وقرَ في القلوب وصدَّقه العمل.
أيها المسلمون, تقوَى الله جلّ وعلا في كلّ شعائر الإسلام, فأوّل ذلك تقوَى الله في إخلاصِ الدين له وعبادتِه وحدَه لا شريك له, وأن لا تشركَ معه غيرَه في كلّ العبادات, فتوحِّده بأفعالك من دعاءٍ واستغاثة واستعانة ورجاءٍ وخوف وتوكّل على الله ورغبةٍ فيما عند الله ورهبة مما عنده.
فالموحِّدون لله قد اتَّقوا الله حقَّ التقوى، حيث أخلَصوا لله دعاءَهم فعظُم الله في نفوسهم، فلم يصرِفوا العبادةَ لغيره. والمشركون بالله ليسوا بأتقياءَ لله؛ لأنهم أشرَكوا مع الله غيرَه، فعبدوا غيرَ الله، وألَّهت قلوبهم غيرَ الله.
المتَّقي لله حافَظَ على الصلواتِ الخمس بشروطها وأركانها وواجباتها، وكمّل ذلك بالمحافظةِ على سُننها ومستحبّاتها طاعةً لله جلّ وعلا.
المتّقي لله نفّذ أركانَ الإسلام، فأدّى الزكاة، وصامَ رمضان، وحجَّ بيت الله الحرام.
المتَّقي لله تمثّلت تقواه في برِّه بأبوَيه وإحسانه إليهما وقيامِه بحقّهما طاعةً لله، يرجو ما عند الله مِن الثواب.
المتّقي لله ربَّى أولادَه من بنينَ وبنات تربيةً صالحة وتنشِئة خيّرة، متّقٍ لله مؤدٍّ الأمانةَ التي ائتمنه الله عليها، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ [التحريم:6].
المتَّقي لله عرف للرّحِم حقَّه، فوصل رحمَه ابتغاءَ وجه الله وطلَبَ ثوابِ الله، وإن قطعت رحمُه فهو واصلٌ لها لعلمِه أنّ الله يحبّ الواصلين، ويحبّ من وصَل رحمه، ويثني على ذلك.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى في تعامُله مع الآخرين، فالصّدق والأمانة والوضوحُ في كلّ المعاملات، فلا غشَّ ولا خيانةَ ولا خدِيعة ولا ضرَر يلحق بالآخرين، بل تقوَى الله تصحَبه في تعامله، فتعامُله مع الآخرين تعاملُ الصادقِ الأمين المؤدّي ما عليه الناصحِ لإخوانه.
المتّقي لله ظهرت آثار تقواه فيما اؤتُمِن عليه من الأمانات، فأدّى الأمانات إلى أهلِها مسارعًا مبتعِدًا عن الخيانة، إذا اؤتُمن على الوصايا نفَّذها، وعلى الأوقافِ نفذها وأبرأ ذمَّته وخلّص نفسَه من عذاب الله.
المتّقي لله أثرُ التقوى ظهَرت عليه في تعامُله مع أهلِه مع زوجتِه، في صدقٍ وأداءٍ للحقوق ومعاشرةٍ بالمعروف، كلٌّ من الذكر والأنثى يظهَر أثرُ التقوى عليهم في تعاملهم.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى عليه في عفّة لسانه وسلامتِه، فلا تراه فاحشًا بذيًّا، ولا شاتمًا لعباد الله، ولا راميًا لهم بالعظائمِ والآثام، بل هو يتّقي الله فيما يقول لعِلمه أنّ أقواله محصاةٌ عليه، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فلا يقول إثمًا، ولا يشهَد زورًا، ولا يحلِف كذبًا، بل هو مبتعِدٌ عن هذا كلّه؛ لأنّ تقوى الله تحجبه عن الانجراف في هذه الرذائل.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى عليه فيما عُهِد إليه من عملٍ وما ألقِي إليه من مسؤوليةٍ، فهو متَّق لله في أعماله، مؤدٍّ لذلك العملِ بإخلاصٍ وصدق، يعلم أنّ المراقبَ عليه ربُّ العالمين، ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّـٰجِدِينَ [الشعراء:218، 219]، فهو مؤدٍّ لعمَله وقتًا وأداء على حسَب ما يستطيع، وعلى حسَب ما يؤّدي به المسؤوليةَ التي ائتمنه الله عليها، فهو حريصٌ على أدائها تقوًى لله جلّ وعلا.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى عليه في استقامتِه في طاعة الله، فلا تراه اليومَ محافظًا على الطاعةِ وغدًا منحرفًا عنها، لا تراه اليومَ يطلب الحلالَ وغدًا يطلبَ الحرام، بل هو على طريقٍ مستقيم ومنهَج قويم، وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى:15].
المتّقي لله حقًّا ظهرت آثارُ هذا التقوى عليه في مكاسبِه، فهو بعيدٌ عن المكاسب الخبيثة، بعيدٌ عن المكاسب المحرّمة، مهما أغرَته تلك المكاسبُ بكثرةِ ثروتها فهو يخاف الله ويراقِب الله، يبتغي مكسبَ الحلال، ويحرص على الطيّب من المال، ويبتعِد عن الخبيث مهما وجَد لذلك سبيلاً، فلا تغريه الأموال بأن يكتسبَها بالحرام، بل هو يخاف الله ويتّقيه، وكلما عرض له مالٌ حرام ذكرَ الله واطِّلاعَه عليه وأنّ الله محصٍ عليه كلَّ الأمور، فحمله تقواه على البُعد عن المكاسبِ الخبيثة.
المتّقي لله ظهرت آثارُ هذا التقوى عليه فيما يأتي ويذَر، فهو لا يقبل الرشوةَ، ولا يرضى بها مكسبًا له، ولا يطمئنّ إليها، بل هو يعلم أنها مكسَب خبيث، فهو يحاربها ويبتعِد عنها مهما أغراه من أغراه بها، فهو يخاف الله ويراقبه.
المتّقي لله ظهَرت آثار التّقوى عليه حين يعين على البرِّ والتقوى ولا يعين على الإثم والعدوان، ينصُر أخاه إن ظُلِم فيدفع الظلمَ عنه، وينصرُه إن رآه ظالمًا فيردعه عن الظلم ويحجِزه عن الظلمِ ويمنعه عن الظلم.
المتّقي لله آثارُ التقوى ظهرت عليه في تعامُله مع جيرانه، فهم مطمئنّون منه، آمنون شرَّه، آمنون غدرَه، آمنون خيانتَه، فإنه مسلم يتّقي الله.
فتقوَى الله جل وعلا تحيط بالعبدِ في كلّ أحواله، والمسلم المتّقي لله هكذا يكون، على منهجٍ قويم وطريق مستقيم. ولِعظم التقوَى وعِظم شأنها أوصى الله بها الخلقَ كلَّهم، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131].
فيا عبادَ الله، حقِّقوا تقوَى الله بالأعمالِ والأقوال الطيّبة، فليس التقوَى كلماتٍ تُقال، ولكنها لباسٌ وهو خيرُ اللباس، يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، فهو لباسُ المؤمن، حلّة المؤمنِ تقوَى الله، حلّتُه وخلُقه تقوى الله فيما يأتي ويذر، فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ تقوًى حقيقيّة تحمِلكم على الخيرِ وتُبعدكم عن الشرّّ وتحذِّركم من البلاء.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى في تعامُله مع إخوانِه المسلمين، فهو يحبّ الخير لهم، ويكرَه الشرَّ لهم، ويرحمهم ويحسِن إليهم، فهو يوقِّر الكبير، ويرحَم الصغير، ويعامِل مَن مثلُه بكل معاملة حَسنة.
فلنتَّق الله في أمورنا وأحوالنا كلها؛ لأنّ بتقوى الله ننال الفضلَ العظيم والثواب الجزيلَ من ربّ العالمين، يقول الله جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلأخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [يونس:62-64].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|