أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله.
أيها المسلمون، (جزء من النص مفقود) هذا عنوان خطبتي اليوم بهذه الجملة التي يعرفها أهل الجوالات إذا وصلته رسالة ناقصة طلعت عليهم هذه العبارة، وهي تعني أن هناك جزءًا من الرسالة مفقودا، ومن خلال ذلك نعلم أن الرسالة غير مكتملة، وأحيانًا تكتمل بعض الرسائل بالتحديث التلقائي. وهناك كثير من الناس يوجد لديهم (جزء من النص مفقود) في حياتهم، ومن يشاهد ما عليه كثير منهم وأحوالهم في هذه الأيام يرى بالفعل أن هناك جزءًا من النص مفقودا لديهم، وأقصد بذلك الجزء المفقود الاستقامة. نعم، إن هذا الجزء هو من أهم الأمور التي ينبغي على كل أحد منا العناية بها، بل هو الأصل؛ لأن الأصل في المسلم الاستقامة على دين الله.
الاستقامة تعني الثبات على الحق والوقوف عند حدود الله والابتعاد عما حرّم الله والسير في الطريق إلى الأمام وعدم التوقف، فإن المتوقف لا يسمّى مستقيمًا، ولا تنحرف يمينًا ولا يسارًا. فالناس ـ ولله الحمد والمنّة ـ فيهم الخير الكثير، ولكن ينقص الكثيرين منهم هذا الجزء، ولا بد على كل واحد منا القيام بعمل (تحديث) لهذا الجزء المفقود، وذلك بالاستقامة على دين الله. فلنبادر ـ أيها الإخوة ـ من هذه اللحظات بالاستقامة، فإنها خير طريق سار عليه من قبلنا من الأنبياء والصالحين، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [هود:112].
عباد الله، يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
أيها المسلمون، الاستقامة كلمة جامعة تأخذ بمجامع الدين، الاستقامة قيام بين يدي الله بما أمر الله، والتزام بالصدق مع الله، والوفاء بعهد الله، فالاستقامة لله وبالله وعلى أمر الله. قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، كما استقاموا إقرارًا استقاموا إسرارًا، وكما استقاموا قولاً استقاموا عملاً، لقد جمعوا بين أصلي الكمال في الإسلام: الإيمان والاستقامة، فالإيمان بالله كمال في القلب بمعرفة الحق والسير عليه، معرفة بمقام الربوبية والألوهية، معرفة بالله ربًّا حكيمًا إلهًا مدبّرًا معظمًا في أمره ونهيه، قد عُمِر القلب بخوفه ومراقبته، وامتلأ منه خشية وإجلالاً ومهابة ومحبة وتوكّلا ورجاءً وإنابة ودعاءً، أخلص له في القصد والإرادة ونبذ الشرك كله، وتبرأ من التعلق بغير ربه.
والاستقامة اعتدال في داخل النفس من غير عوج يمنة أو يسرة، انتهاج للتقوى والعمل الصالح، والتزام بالصواب من الرأي والعلم والعمل، وقيام بأداء الفرائض واجتناب المناهي، وقول بالحق وحكم به، وبعد عن مواضع الشبه وموارد الفتن، قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، إذا تمكن ذلك في العبد وتحقق ظهر ذلك طمأنينة في النفس ورقة في القلب وقربًا من الرب، إيمان واستقامة ينجلي بها الليل البهيم لذي البصر السقيم، ينسكب على القلوب الظمئة فترتوي، ويغشى النفوس العاصية فتستكين، ويهيمن على العقول الشاردة فترجع وتؤوب. بالاستقامة أُمِر نبينا محمد وأصحابه رضوان الله عليهم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [الشورى:15]، وبالاستقامة أُمِر النبيان الكريمان موسى وهارون عليهما السلام: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89].
أيها المسلمون، استقيموا كما أُمرتم ولا تطغوا، استقيموا ولا تتبعوا الهوى، استقيموا ولا تتبعوا سبيل الذين لا يعلمون.
أيها المسلمون، الاستقامة شاقّة، فالنفس معها تحتاج إلى المراقبة والملاحظة، استقامة لا تتأثر بالأهواء، استقامة تحقّق العدل والتوحيد، استقامة بعيدة عن المجاوزة والطغيان. يقول عمر : (الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب). وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قال له: ((يا عبد الله بن عمرو، إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)). ويقول بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصا".
الأمر خطير أيها الإخوة، فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حدّ الغلو والإسراف والمجاوزة، ونظرًا لعظم الأمر ودقّته فقد وجّهكم نبيكم محمد بقوله: ((استقيموا ولن تحصوا))، وبقوله: ((سدّدوا وقاربوا))، وأمركم ربكم عز شأنه بقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6].
فالمطلوب الاستقامة، وهي السداد والإصابة، فإن لم يقدر فليجتهد في المقاربة وليستغفر الله، فإن نزل عن ذلك فالخوف عليه من التفريط والإضاعة. استغفار مقارن لمسيرة الاستقامة، جبرًا للنقص البشري، وتسديدًا للقصور الإنساني، استغفار وتوبة تعيدان إلى جادة الاستقامة، وتردان إلى مسلك الحق والعدل، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114، 115]. ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها))، استقامة مقرونة باستغفار، مما يعني يقظة دائمة ومحاسبة صادقة وضبطًا للانفعالات البشرية.
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الإخوة المسلمون ـ فإن مدار تحقيق الاستقامة على وجهها حفظ القلب واللسان، فقد جاء عند أحمد من حديث أنس عن النبي أنه قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))، ولقد كان من دعاء النبي : ((أسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا)). من صلح قلبه استقام حاله، فلم ينظر ببصره إلى محرم، ولم ينطق لسانه بإثم، ولم يبطش بيده في مظلمة، ولم ينهض بقدمه إلى معصية، ((والأعضاء كلها تكفّر اللسان، وتقول له في مطلع كل صباح: اتق الله، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) بهذا جاء الخبر عن رسول الله مرفوعًا وموقوفًا.
أيها الإخوة والأحبة، هذه هي الاستقامة في حقيقتها وطريقتها، أما جزاء أهلها فتنزل عليهم ملائكة الرحمن أن لا تخافوا ولا تحزنوا، أمْنٌ من المخاوف، وسلامة من المكاره، لا يأسون على فائت، ولا يشفقون على مستقبل، مسددون موفقون محفوظون بملائكة الله من أمر الله بإذن الله، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، لهم الأمن في الحال والمآل والنعيم المقيم، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].
أيها الإخوة، الاستقامة في الدين مقام من أعلى المقامات، به يُرتقى لأسمى الكمالات وأفضل الطاعات، مراقبة لله على دوام الأوقات، أهل الاستقامة لا يصبح الدين عندهم فريسة العابثين ولا ميدان المتلاعبين، وليس لعبة للمنحرفين وتقلبات المنافقين، أهل الاستقامة يتواصلون بالدين، لا يحمل بعضهم على بعض ضغينة، ولا تشوبهم ريبة، ولا تسرع إليهم غيبة، في الله يتحابّون، وفي دين الله لا يغلون أو يزيدون، ومهما طال عليهم الطريق فلغير دين الله لا يدينون، غير ناكثين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين عن عمل.
أما من قلّ نصيبه واختلّت استقامته واعوجّت مسيرته فتجرفه أهواء عاتية، وتحرفه أغراض متباينة، لا يحمل رسالة، ولا يقيم دعوة، ينحرف عند أدنى محنة، ويضل عن أدنى شبهة، ويزلّ لأول بارقة شهوة، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، دينه ما تهوى نفسه، وعقيدته ما يوافق هواه، هذا حال الفريقين، وهذا مسلك النجدين.
فليجاهد العبد نفسه في تحقيق الإيمان والاستقامة، وليسأل ربه الثبات بعد الممات والحفظ من فتن الشهوات والشبهات، وليعرض عن الجاهلين، وليصفح عن المسيئين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم.
|