.

اليوم م الموافق ‏10/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الإنابة إلى الله تعالى

2299

الرقاق والأخلاق والآداب

أعمال القلوب, التوبة

عبد المحسن بن محمد القاسم

المدينة المنورة

9/1/1426

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سرور القلب. 2- الإنابة إلى الله من هدي المرسلين. 3- فضل الإنابة والمنيبين إلى الله. 4- حقيقة الإنابة. 5- ضرورة المحاسبة والمراقبة. 6- فضل صيام المحرم وعاشوراء. 7- عظم الجرم في الأشهر الحرم.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى؛ فمن اتَّقى ربَّه أكرمه بين الأنام، وأسعده مولاه على الدّوام.

أيّها المسلمون، أفضل الخلقِ وأهداهم أتمُّهم عبوديّةً لله، وسرورُ القلبِ وشَرحُ صدرِه في إنابةِ العَبد إلى الله والإقبالِ عليه والاستعانةِ به، والرجوعُ إلى الله والإنابةُ إليه عبادةٌ عظيمة من سنَنِ الأنبياء والمرسَلين، قال جلّ وعلا عن داودَ عليه السلام: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وقال عَن سليمانَ عَليه السلام: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، وقال شُعيب عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال نبيُّنا محمّد : ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]، وأثنى الله على خليلِه إبراهيم لاتِّصافِه بالإنابةِ إليه والرّجوعِ إليه في كلِّ أمر، قال جلّ وعلا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]، ومِن دعاء الخليلِ عليه السلام: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].

والمنيبون إلى اللهِ هم خيرُ مَن يَصحبُهم المرءُ في حياته، يقول سبحانه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15].

والإنابةُ إلى اللهِ هي مفتاحُ السّعادة والهدايةِ، قال سبحانه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27]. والبِشارة لأهل الإنابة: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى [الزمر:17]. ولا يعتبِر بالآيات ولا يتَّعظ بالعِبَر إلاّ المنيب إلى ربِّه، قال عز وجل: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:8]، وهو المتذكِّر بنزولِ النّعم، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ [غافر:13].

والإنابةُ إلى الله مانعةٌ من عذابِ الله، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]. والجنّةُ أعِدَّت نُزُلا للقلبِ الخاشع المنيب، قال جل جلاله: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].

وأمَر الله جميعَ الخَلق بالإنابة إليه والرجوع إليه، قال سبحانه: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31].

وحقيقتُها الرجوعُ إلى الله، وهي منزلةٌ أعلى من التوبة، فالتوبةُ إقلاعٌ عنِ الذنب وندَم على ما فات وعَزمٌ على عدَم العودة إليه، والإنابةُ تدلّ على ذلك وتدلّ على الإقبالِ على الله بالعِبادات، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

ومَن أكثرَ الرجوع إلى الله كان الله مفزَعَه عند النوازِلِ والبلايا والفواجِع، ومَع مَطلَع هذا العامِ حقيقٌ بالمرءِ أن ينيبَ إلى ربِّه وأن يحاسِبَ نفسَه على ما سَلَف وعلى ما اقتَرَف من عِصيان، يقول الحسن البصري رحمه الله: "إنَّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانَتِ المحاسبَةُ هِمَّتَه، والمؤمِن في الدنيا كالغريبِ؛ لا يجزَع من ذلِّها، ولا ينافِس في عِزِّها، له شأنٌ وللنّاسِ شَأن"[1]، واعمَل بوصيَّةِ المصطفى : ((كُن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيل)) رواه البخاري[2]، ومن كانتِ الآخرة همَّه كانت هِمَّته في تحصيلِ الزاد الصالح، وإذا استيقَظَت القلوب استعدَّت للآخرة، قال بعض السلف: "ما نِمتُ نومًا قطّ فحدّثتُ نفسِي أني أستيقِظُ منه"[3]، ومَن اجتَهَد في محاسبةِ نفسِه ولَجَمها علَى العصيان نجا في الآخرةِ منَ النّدامة والخُسران.

أيّها المسلمون، حقٌّ على الحازِمِ أن لا يغفلَ عَن زلاّت نفسِه وخَطَراتها وخَطَواتها، بل يقودُها إلى ما يقرِّبها إلى ربِّها، فالمحافظَةُ على الصلواتِ جماعةً في بيوتِ الله من شعائرِ الإيمان، والدعوة إلى الله تنير البصيرةَ، وبِذِكر الله تلينُ القلوب، قال سبحانه: أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، ومجالسةُ العلماء والصالحين وملازَمَة دروسهم من أسبابِ خشيةِ الله ومراقبَتِه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وبِرُّ الوالدين مفتاحُ السّعادة، وصِلَة الرّحِم بركة في الوقتِ والرّزق، والمال الحلال سبَبٌ في صلاح الأبناءِ وإجابةِ الدعاء، وقِصَر الأمَل دافع للعَمَل، وتَذَكُّر الموت خيرُ واعِظ، وزِيارةُ المقابر والتأمُّل في أحوال الموتى تذكيرٌ بالآخرة، والتطلّع إلى سِيَر السّلَف يهذِّب النّفسَ ويحدو للعمل، قال ابن القيِّم رحمه الله: "ومن تأمَّل أحوالَ الصحابةِ وجَدَهم في غايةِ العمل مع غايةِ الخوف، ـ قال: ـ ونحن جمَعنا بين التّقصِيرِ بل بين التفريطِ والأمن، وكان الصِّدِّيق يقول: (وَدِدتُ أني شعرةٌ في جنبِ عبدٍ مؤمن)[4]، وكان إذا قامَ إلى الصلاة كأنّه عودٌ مِن خشية الله[5]"[6].

والرّشيدُ مَن خاف على نفسِه الوقوعَ في الزّلَل أو الإقرارَ على الخَلَل، فالصحبةُ السيّئة تورِد المهالك، وإطلاقُ عَنانِ البَصَر في المحرَّمات مما يشاهَد في الفضائيّات والطُّرُقات يضعِف زَكاءَ النّفس، وإهمالُ الأبِ إصلاحَ أهلِ بيتِه تفريطٌ في الأمانة، واتّباعُ الهوى والشهواتِ يورد الندامة، وإطلاقُ اللّسان بالكذب وفي أعراضِ المسلمين يظلِم القلبَ، وإشغالُ النفس بما لا يعنيها حِرمانٌ لها ممّا يرفَع درجاتها، يقول إبراهيم بن أدهَم رحمه الله: "من علامةِ إعراضِ الله عن العبد أن يشغِلَه بما لا يعنيه"[7]، والتّقصيرُ في إنكارِ المنكَر بالحسنى ضَعفٌ في النّصح، ودَواء السيِّئات كثرة الاستغفار، وتَرك الخطيئةِ أيسَر من طلبِ التّوبة، واغتَنِم الأعمالَ الصالحة قبل أن يحولَ بينك وبينها حائل، يقول المصطفى : ((اغتَنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغك قبل شغلِك، وحياتك قبل موتِك)) رواه الحاكم[8].

والموفَّق هو المنيب إلى الله بالرجوع إليه من العصيان، المكثِرُ من أنواعِ الطاعاتِ والقُرُبات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تَسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرّحيم.




[1] جزؤه الأول أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/146)، وجزؤه الأخير أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/189).

[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6416) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص383).

[4] رواه أحمد في الزهد (ص108)، وانظر: صفة الصفوة (1/251).

[5] رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/125)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (144)، والبيهقي في الكبرى (2/280)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/226).

[6] الجواب الكافي (ص25).

[7] روي هذا من كلام الحسن ومن كلام الجنيد، انظر: التمهيد (9/200)، وجامع العلوم والحكم (ص116)، وصفة الصفوة (2/418).

[8] المستدرك (4/341)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي في الشعب (7/263) علّة، وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، والبغوي في شرح السنة (4022)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله عَلَى إحسانِه، والشّكر له على توفيقِهِ وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أمّا بعد: أيّها المسلمون، شهرُ الله المحرم من أعظمِ الشهور عند الله، نَصَر الله فيه موسَى وقومَه على فرعونَ وملَئِه، وصيامُ أيّامه فاضِلة، يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((أفضلُ الصيام بعد رمضانَ شهرُ الله المحرّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل)) رواه مسلم[1].

ومِن شكرِ الله على نِعَمه استفتاحُ العام بعمَلٍ مِن أفضل الأعمال الصالحة بِصيام أفضلِ أيّام غُرّة العام يومِ عاشوراء، يقول ابن عبّاس رضي الله عنه: قدِم النبي المدينةَ فوجَد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يومٌ عظيم أنجى الله فيه موسَى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال النبيّ : ((نحن أحقُّ بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه. متفق عليه[2].

وصِيامه كفّارة لخطايا عامٍ قبله، قال : ((أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السنّةَ التي قبله)) رواه مسلم[3].

فيُستحَبّ للمسلمين أن يصوموا اليومَ العاشر، وأن يصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، عملاً بهَديِه عليه الصلاة والسلام.

عبادَ الله، إنَّ قتلَ النفوسِ البريئةِ التي عصَم الله دماءَها من أعظمِ الجرائم، وإنَّ أزهاقَ تلك الأرواح بالاغتيالاتِ جرمٌ شنيع ومِنَ السّبع الموبقات، قال جل وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال سبحانه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].

وإنَّ ما يحدُث في هذه الأزمانِ من التفجير الذي يَهلِك فيه الحرثُ والنسل ويعمُّ به الخرابُ وتزهق معه النفوس من أعظمِ الإفساد في الأرض، وإنَّ مثلَ هذه الجرائم والاغتيالات لتشتدُّ عظَمَتُها وتعظُم بشاعتها إذا وقعَت في شهرِ الله المحرَّم وقُتِل بها عظيمٌ في قومِه سَعَى لِلَمِّ شَعثِ بلادِه وإِرساء الأمنِ في موطِنِه، قال قتادة رحمه الله: "الظّلمُ في الأشهرِ الحرُم أعظم خطيئةً ووزرًا من الظلمِ فيما سواه، وإن كان الظّلمُ على كلِّ حالٍ عظيمًا، ولكنّ الله يعظِّم من أمرِه ما يشاء"[4]، فعظِّموا حُرُمات الله وأشهرَه الحُرُم.

ثم اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...

 



[1] صحيح مسلم: باب: فضل صوم المحرم (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130).

[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.

[4] رواه الطبري في تفسيره (10/127).

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً