.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

صلاح القلوب

3608

الرقاق والأخلاق والآداب

أعمال القلوب

خالد بن عبد الله المصلح

عنيزة

جامع العليا

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- صلاح القلب وأهميته في استقامة الأعمال. 2- أسباب صلاح القلوب.

الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن تقوى الله جل وعلا لن تستقيم لكم إلا بإصلاح قلوبكم وتطهيرها من الأمراض والآفات بالبر والطاعات، ولهذا فإن الله جل ذكره بعث الرسل وأنزل الكتب لإصلاح القلوب وتطهيرها وتزكيتها وتطييبها.

وبالقلب يعرف العبد ربه، فيتعرف على أسمائه وصفاته، وبالقلب يعلم العبد أمر الله ونهيه، وبالقلب يحب العبد ربه ويخافه ويرجوه، وبالقلب يفلح العبد وينجو يوم القيامة، قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، أي: أتى الله بقلب سليم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره ونبأه.

وبالقلب ـ يا عباد الله ـ يقطع سفر الآخرة، فإن السير إلى الله تعالى سيرُ القلوب لا سيرُ الأبدان.

قطع المسافة بالقلوب إليه لا    بالسير فوق مقاعد الركبان

قال ابن رجب رحمه الله: "فأفضل الناس من سلك طريق النبي وخواص أصحابه في الاجتهاد في الأحوال القلبية، فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان".

والقلب ـ يا عباد الله ـ هو موضع نظر الله سبحانه وتعالى من عبده، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[1].

فيا لله العجب من أقوام صرفوا جلّ اهتمامهم في تحسين ظواهرهم، وغفلوا عن قلوبهم وأفئدتهم، وما أصدق ما قاله ابن القيم رحمه الله:

فالفضل عند الله ليس بصورة   الأعمال بل بحقائق الإيمان

وبصلاح القلب ـ يا عباد الله ـ تصلح الأجساد، ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[2].

أيها المؤمنون بالله ورسوله، يا من ترجون الله والدار الآخرة، عليكم بحفظ قلوبكم وإصلاحها، وحسن النظر فيها، وبذل المجهود في استقامتها، واعلموا أنه لن يتم لكم ما ترجونه من صلاح قلوبكم حتى تسلم قلوبكم من أربعة أمور:

الأمر الأول: أن تسلم من الشرك صغيره وكبيره، فإنه من أعظم مفسدات القلوب، قال ابن القيم رحمه الله: "ولا صلاح له ـ أي: للقلب ـ إلا بتوجيه محبته وعبادته وخوفه ورجائه".

الأمر الثاني: أن تسلم من البدعة ومخالفة السنة، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإذا امتلأ القلب بالبدع أظلم، وإذا أظلم مرض ولم يصح.

الأمر الثالث: أن تسلم من الشبهات التي تزيغها وتحملها على اتباع الهوى والتكذيب بالحق.

الأمر الرابع: أن تسلم من الشهوات التي تمرضها وتفسدها.

أيها المؤمنون، إن السلامة من هذه الآفات الكبرى لا تتأتى إلا بأسباب لا بد من الأخذ بها، ومقدمات لا بد من تحصيلها.

فمن أسباب صلاح القلوب واستقامتها الأخذ بالقرآن العظيم، تلاوة وحفظًا وتدبرًا وتعلمًا، فإن الله سبحانه وتعالى أنزله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].

فالقرآن أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو أنفع الأدوية لما في الصدور من أمراض الشبهات والشهوات. قال ابن القيم رحمه الله: "جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين".

فأقبلوا على كتاب الله يا عباد الله، فإنه لا صلاح لكم ولا سعادة إلا بالتمسك به، فاعتصموا به، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

ومن أسباب صلاح القلوب واستقامتها إعمارها بمحبة الله تعالى، فلا فلاح ولا صلاح ولا استقامة ولا لذة ولا طيب إلا بمحبة الله تعالى، قال النبي : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَ إليه مما سواهما)) الحديث متفق عليه[3]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمحبة أعظم واجبات الدين، وأكثر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين".

فاجتهدوا ـ يا عباد الله ـ في تحصيل محبة الله تعالى، واعلموا أن طريقها الأكبر أداء الفرائض والواجبات، والاجتهاد في النوافل والمستحبات، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه))[4].

ومن أسباب صلاح القلوب وتطييبها ذكر الله تعالى، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وقال النبي : ((مثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثلُ الحي والميت))[5].

فذكر الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ جلاء القلوب، فإن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة، وجلاؤه ذكر الله تعالى. فأكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من ذكر الله تعالى في جميع الأوقات، لا سيما في أدبار الصلوات، وفي الصباح والمساء، وغير ذلك من المناسبات، فإنها من أعظم ما يصلح القلوب.

عباد الله، إن من أسباب صلاح القلوب تطهيرها من الآفات والأمراض التي تفسدها وتعطبها؛ كالحسد والغل والعجب والرياء والشح، فإن هذه الأمراض تفسد القلب، وتصرفه عن صحته واستقامته. فاحرصوا ـ بارك الله فيكم ـ على تطهير قلوبكم من هذه الآفات، فإنه لا نجاة للقلب إلا بالنجاة منها.

أيها المؤمنون، إن من أهم أسباب صلاح القلوب دعاء الله سبحانه وتعالى وسؤاله إصلاح القلب وتطييبه، فإن سؤال ذلك من أنفع الدعاء، ومن دعاء النبي : ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))[6]، ومن دعائه أيضًا: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))[7]، فأكثروا من سؤال الله التثبيت وإصلاح القلوب.


 



[1] أخرجه مسلم في البر والصلة (4650).

[2] أخرجه البخاري في الإيمان (50), ومسلم في المساقاة (2996).

[3] أخرجه البخاري في الإيمان (15), ومسلم في الإيمان (60).

[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6021).

[5] أخرجه البخاري في الدعوات (5928).

[6] أخرجه مسلم في القدر (4798).

[7] أخرجه الترمذي في القدر (2066).

الخطبة الثانية

أما بعد: فيا أيها المؤمنون، توبوا إلى الله توبة نصوحًا، فإن الذنوب فساد القلوب وخرابها، ففي الصحيح قال النبي : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ))[1].

فبين هذا الحديث أثر الذنوب على القلب، وأنها تطمسه وتختم عليه، كما قال ابن المبارك رحمه الله:

رأيت الذنوب تميت القلوب    وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب     وخير لنفسك عصيـانها

وفي الحديث أيضًا أثر التوبة في تصفية القلب وتطهيره وتنقيته.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القلب إذا تاب من الذنوب كان ذلك استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه".

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا عزمت التوبة وصحت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له".

فأكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من التوبة والاستغفار، فإن التوبة تجلو القلب، وتزيل عنه أوضار المعاصي والسيئات، ففي الصحيح من حديث الأغر المزني أن رسول الله قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة))[2].

أيها الحريصون على إصلاح قلوبهم، إن من أسباب استقامة القلب وصلاحه تعظيم الله تعالى الذي ينشأ عنه تعظيم أمره ونهيه، قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وشعائر الله هي أوامره ونواهيه، فعظموا الله سبحانه وتعالى يصلح لكم قلوبكم، ويغفر لكم ذنوبكم.

ومن أسباب صلاح القلوب وتطييبها الحرص على البعد عن أسباب فسادها وخرابها، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر فإنه أسلم له وأطهر لقلبه"[3].

فكل شيء يفسد قلبك ـ أيها العبد ـ فاحرص على تجنبه والبعد عنه، فإن قلبك أعظم ما تملكه، وإذا فسد عليك فسدت عليك حياتك وآخرتك.

اللهم أصلح قلوبنا، وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.

 



[1] أخرجه مسلم في الإيمان (207).

[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4870).

[3] التفسير (4/166).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً