أما بعد: فيا أيها الناس، إن وضع كثير من الناس في هذا العصر وضع عجيب، وضع اختلط فيه العلم بالجهل والحقيقة بالخرافة، وهذا الوضع العجيب في هذا العالم الفسيح بدا ظاهره جميلاً خلابًا، يخدع السذج والرعاع، ويفتن قلوب الدهماء من الناس، وفي المقابل بدا باطنه سيئًا نتنًا، يتجافى عنه أولو الألباب، وينفر منه ذوو الفطر السليمة والقلوب المستنيرة.
إن الله جل وعلا قد أكرم أمة الإسلام بنعمتين عظيمتين، لا يمكن أن تستقل إحداهما دون الأخرى، ألا وهما نعمتا الدين والعقل، نعمة الدين الصحيح ونعمة العقل الصريح، فلا دين بلا عقل؛ إذ لا تكليف حينئذ، ولا عقل بلا دين؛ إذ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
والدين الصحيح قد أكمله الله بخاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه، فلا نسخ بعد وفاته ولا تبديل، ويبقى الدين على ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
بيد أن العقل لدى كثير من الناس في هذا العصر قد كبا كبوة مثيرة وزل زلة خطيرة، فجمهور من الناس قد أصابتهم لوثات وعلل أزرت بقدراتهم العقلية، مذ أسلموا عقولهم لأيادي الهدم التي لبست قفاز العلم، واستطاعت من وراء هذا القفاز أن تصافح كثيرًا من العقول، وأن تتسلل إلى كثير من البيئات والأوساط، دون أن يداخل الناس شك في أمرها، والتي أدت إلى تلوث الحياة الاجتماعية لدى كثير من المسلمين بسبب تخلفهم وإبان غفلة من علمائهم وفقهائهم.
وإن مما يؤخذ على كثير من الناس في عصرهم الحاضر عدم الالتزام بالمنهج الصحيح فيما يتعلق بأمور الغيب، حيث آمن بعضهم بالخرافة، ورضي آخرون بالكهانة، فباتوا سادرين على باطلهم لاهين بالسجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حين، ناسين أن الغيبيات لا مصدر لها إلا الكتاب والسنة، أما أخبار الناس فليست مصدر علم غيبي، بل إنها محور أساطير وأوهام وخليط كلام، يأتي به مسترقو السمع من السماء. والإسلام دين يزيل الخرافة من الفكر والرذيلة من القلب والشرود من المسيرة. فالإيمان بالغيب ليس إيمانًا بالوهم ولا إيذانًا بالفوضى.
عباد الله، لقد توصل بعض الباحثين في تاريخ البشرية والنفس الإنسانية إلى أن كثيرًا من الناس لهم ولع شديد بمعرفة الغيب، والتطلع إلى هذا طبيعة بعض البشر، ولذلك تجد كثيرًا من الناس يتشوّفون إلى الوقوف على ذلك في المنام، ومن هذا المنطلق لم يقنع البعض من البشر بما أخبرتهم به رسلهم من غيوب ماضية وغيوب آتية، فذهبوا يتكشفون الغيب الماضي والحاضر، وزعموا بذلك أن لبعض البشر قدرة وملكة على معرفة الغيب، فقام في كل عصر وفي كل مصر أقوام يزعمون أن لديهم القدرة على معرفة الأحداث الآتية والكائنات الغائبة.
لقد جَرّت الحياة المادية الجافة بلاءً عظيمًا للبشرية، فقست القلوب، وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس في هذا العصر؛ فبرزت العقد والمشكلات النفسية التي أصبحت سمة بارزة في هذا العصر، فأخذ كثير من الذين فقدوا راحة القلب وطمأنينة النفس وطعم الإيمان في قلوبهم، أخذوا يلجؤون إلى السحرة والمشعوذين، يبحثون عندهم عن حل لمشكلات عجزوا هم عن حلها، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولسان حالهم يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء، وشر البَلِيَّةِ ضلال بعد الهدى وعمى بعد البصيرة.
فلقد خلق الله الخلق يميلون بفطرهم إلى التوحيد دين الفطرة، فانحاز الشياطين بفريق منهم، فحولوهم عن طريق الهدى، وانحرفوا بهم عن مسلك الرشاد، قال رسول الله فيما يرويه عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين))، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام:128].
فهؤلاء الجن أضلوا كثيرًا من الإنس بتزيينهم الباطل والضلال لهم، وإن من الباطل الذي زينه الشياطين واستدرجوا الإنس إليه تعاطي السحر بمختلف صوره وأشكاله، وتصديق الكهنة، والاعتماد على كذب المنجمين والرمالين والدجاجلة والمشعوذين الذين يزعمون الاطلاع على الغيب والكشف عن المخبأ. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا جميعًا أن السحر يقوم في بعض صوره على الاتصال بالجن من شرار الخلق، وينبغي أن يكون ذلك مُسلّمًا عند كل مسلم قرأ ما جاء في قصة هاروت وماروت، وما جاء من الاستعاذة بالله من السحرة وشر شرار خلقه من الجن والإنس في المعوذتين.
أيها الناس، إن السحر حقيقة موجودة ولها تأثير في واقع الناس، ولو لم يكن موجودًا وله حقيقة لما وردت النواهي عنه في الشرع، والوعيد على فاعله، والعقوبات الشرعية على متعاطيه، فكم فرّق السحرة بين زوج وزوجته، وبين صديق وصديقه، وتاجر وتجارته، وموظف ووظيفته، وكل هذا حقيقة لا مكابرة فيها.
أيها المسلمون، لقد عُرف من خلال تتبع أحوال السحرة والمسحورين أن للسحر أنواعًا كثيرة من حيث تأثيرها على المسحور، فمنه سحر التفريق الذي قال الله فيه: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، ومنه سحر المحبة الذي سماه رسول الله بالتِّوَلَة، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) رواه أحمد وأبو داود، والتولة هو ما يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما جعله رسوله الله من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
ومن السحر أيضًا سحر التخييل، كأن يرى الشيء الثابت متحركًا والمتحرك ثابتًا، كما قال تعالى عن موسى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، ومنه سحر الخمول، بحيث يحبب إلى المسحور حبّ الوحدة والصمت الدائم والشرود الذهني، وما شابه ذلك من ألوان السحر وضروبه.
ومن الأمور المغرضة المبنية على السحر والشعوذة والتدجيل ما يروجه أدعياء الروحية الحديثة، تلكم الدعوة الهدامة التي يزعم أربابها أنهم يحضرون أرواح الموتى بأساليب علمية، ويستفتونهم في مشكلات الغيب ومعضلاته، ويستعينون بهم في علاج المرضى والإرشاد على المجرمين والكشف عن الغيب، ويدعون أن الأرواح التي تخاطبهم تعيش في هناء وسعادة رغم أنها كافرة؛ ليهدموا بذلك عقيدة التوحيد والبعث والجزاء والإيمان والكفر والجنة والنار، وكل ذلك يكون تحت شعارات براقة، كالإنسانية والإخاء والحرية والمساواة؛ للتمويه على السذج والبسطاء، وعملهم كله منصب على زعزعة الدين من النفوس، وكلامهم صريح في أن الروحية الحديثة دين جديد، ويدعو إلى العالمية ونبذ كل الأديان؛ ليستلّوا بذلك الإيمان من صدور الناس، ويسلموهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام.
وأعمال أولئك الروحيين تدخل في واحد من أقسام ثلاثة: أولها: الغش والخداع، وثانيها: التأثير المغناطيسي على الحاضرين، وثالثها: الاتصال بشرار خلق الله من الجن.
وأول من سار في ركاب هذه الفكرة هي الأمة الكافرة التي اكتنفتها كل صور الإباحية والإلحاد، ولئن استنكرنا على أمم الكفر ما يسمى مجالس تحضير الأرواح فإننا لنستغرب من بعض المسلمين عدم مبالاتهم بالأمر ونتائجه، فربما سمح أحدهم لنفسه طمعًا في استكشاف غيب أو إبراء مريض كما يزعمون أن يحضر تلك المجالس، وربما وضع الجن له طعمًا في كلمة تصدق أو حاجة تقضى، فيلقي لها زمامه كله، فإذا هو بعد حين ناكب عن الصراط المستقيم.
والجن لهم قدرة أبعد مدى من قدرة البشر، ولكنهم لا يعلمون الغيب، وما يكون غيبًا أحيانًا بالنسبة لنا قد يكون عيانًا بالنسبة لهم؛ لما وهبهم الله من قوة، كما قال تعالى عن عفريت سلميان: قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:39، 40]، يعني بذلك عرش ملكة سبأ. فأنت ترى ـ أيها المسلم ـ أن الحِدأة ترى من الجوّ ما لا نراه نحن تحت أقدامنا، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إنها تعلم الغيب، وبالتالي فإن ما يدور في مجالس تحضير الأرواح لا يدل على شيء ذي بال، ولا يسوغ أبدًا أن يكون ذريعة لترك ما نعلم من شرائع الإسلام.
عباد الله، أما الكهانة والتنجيم فحدّث عن المحزن المبكي ولا حرج، المحزن حينما ترى الترهات وتسمع الرجمَ بالغيب من أخلاء الشياطين، والمبكي يوم أن ترى الرعاع من المسلمين لا همّ لهم إلا أن ينصتوا إلى دجل الدجالين ومدعي قراءة الكف والفنجان، وإلى السيل المتضارب من تنبؤاتهم عما سيحدث في العالم خلال يوم جديد أو أسبوع سيطل أو شهر أوشك حلوله أو عام مرتقب، ويمضي الكثيرون في دجلهم ويحددون بذلك مستقبل الأبراج، فسعيدون هم أصحاب برج الجدي، وأغنياء هم أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل، إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف.
إن لنا ـ يا عباد الله ـ في أحقاب الزمن من ذلك أشكالاً وألوانًا يمثله أدعياء الكهانة والتنجيم والتخمين والتدجيل، فهذا ابن صياد الكاهن الذي ادعى النبوة، لقيه رسول الله في الطريق فقال له: ((قد خبأت لك خِبئًا))، قال ابن صياد: هو الدُّخ، فقال رسول الله : ((اخسأ، فلن تعدوَ قدرك)) رواه البخاري. فابن صياد أراد أن يقول: هو الدّخان، فلم يستطع، فقال: هو الدُّخ. وفي رواية عند أحمد أن رسول الله قال: ((وخبأت له: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ)) فابن صياد اندهش، فلم يقع عليه من إلقاء الشيطان إلا بعض لفظ الدخان وهو الدُّخ.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له منجم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر؛ فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرتَ والقمر في العقرب هُزِمَ أصحابك، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (بل نسافر، ثقةً بالله وتوكّلاً على الله وتكذيبًا لك)، فسافر فبورك له في ذلك السفر حتى قتل عامّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرّ به رضي الله عنه.
ومن تلك المفتريات التي دونها التاريخ وأصبحت وصمةَ عار على جبين الكهان والمنجمين كذِبُهم حينما ادّعوا أن الخليفة المعتصم لا يمكنه فتح مدينة عموريه قبل أن ينضج التين والعنب، وانتشر الخبر بين الناس، فأكذب الله المنجمين وأعز المسلمين، وكان الفتح استجابة لصرخة امرأة مسلمة أذلها الروم فصاحت: وامعتصماه، فبرز أحد الشعراء بقصيدة عصماء عرض فيها لدجل المنجمين وكذبهم، فمما قال:
السيـف أصدق أنبـاءً من الكتب في حدِّه الحـدّ بين الجـدّ واللعب
أين الروايـة بل أين النجـوم وما صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
وخوفـوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت جلـودهم قبل نضج التين والعنب
وعندما ظهر كذب ادعاء الغيب لم يكفّ الناس عن تصديق مثل هذه الخُزَعْبَلات، فلا يزال يظهر بين الفينة والأخرى مسيلِمة آخر ودجالون كذابون والله المستعان.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن التوحيد ينبغي أن يغمر قلوب الناس ليصبح توحيدًا خالصًا، فلا يعتصم الناس إلا بالله، ولا يلجؤون إلا إلى الله، فالله وحده هو الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|