أما بعد: فبالوحدة الإسلامية والأُخوة الإيمانية سطعتْ شمسُ الإسلامِ على العالم، وامتدتْ فتوحاتُه في الشرق والغرب، وخَضَعتْ له دولٌ وممالك قرونًا طويلةً من الزمان. وبغياب الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية انحلَّتْ عُرانا، ووهَنَتْ قُوانا، وتداعتْ علينا الأممُ كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها.
والحقُّ أنَّ الأمة الإسلامية تملك من أسباب الوحدة وأواصر الأخوة وقوة الإرادة وإصرار العزيمة ما يجعلها قادرة على تجاوز هذه المحن وتغيير هذا الواقع. وأول خطوة يجب أن نقوم بها في الطريق إلى تحقيق الوحدة والتحقق بها هي تعميق الإحساس والشعور بالأسس والأصول الإيمانية للوحدة الإسلامية من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون [الأنبياء:92]، وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير [البقرة:285]، وقال رسول الله في تعريف الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). إنَّ هذه الأسس والأصول أوثق وأكبر ضمان للوحدة المنشودة إلى آخر الدهر، ومن ثَمَّ يجب تعميق الإحساس والشعور بها.
والخطوةُ الثانيةُ ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ التي يجب أن نقوم بها في الطريق إلى تحقيق الوحدة والتحقق بها هي العمل على ائتلاف القلوب والمشاعر وإذكاء وإنماء عاطفة الحب والتراحم. لقد كان تأليفُ القلوب بابَ الإسلام إلى تحقيق نعمة الوحدة والأخوة بين المؤمنين، ومِنْ ثَمَّ إلى تحقيق النصر المبين، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
والإسلامُ الذي فعل هذا بالأمس وأطفأ نار العداوةِ بين الأوس والخزرج وأنقذ الأمة من شفا حفرة من النار قادرٌ على أن يفعل مثله اليوم؛ لأن ائتلاف القلوب والمشاعر والاصطباغ بصبغة التواد والتراحم والتعاطف سمة من سمات المؤمنين وخصيصة من خصائص الإيمان، وفي الحديث الشريف عن رسول الله : ((مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى))، وقال رسول الله : ((المؤمن يأْلَفُ ويُؤْلَفُ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف))، وقال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)). بهذا الحب وبهذا التآلف وبهذا التراحم والتعاطف تتحقق الوحدةُ الإسلامية والأخوةُ الإيمانية، وبغير هذا لا تقوم وحدة ولا تتحقق أخوة.
والخطوة الثالثة ـ عبادَ الله ـ التي يجب أن نقوم بها على طريق تحقيق الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي إحياءُ الأخوة الحقّة التي تثمر الحب والإيثار والتعاون والتناصر المؤثـر الفَّعـال، قال تعـالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُـونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
وتعالوْا بنا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ نتأملْ صورة المجتمع الإسلامي الأول؛ لنرى كيف بَنَى رسولُ الله وحْدَتَهُ الإسلامية وأُخُوَّتَهُ الإيمانية على خُلُق الحب والإيثار. قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:8-10].
وقد طالبَنا القرآنُ الكريم ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ بإحكام الوحدة الإسلامية وتأصيلها وتفعيلها بالتآزر والتناصر بين المؤمنين، ولفَتَ أنظارنا إلى أن أعداءنا يوالي بعضُهم بعضًا، وحَذَّرنا من التفريط في هذه الموالاة، وبَصَّرنا بالعواقب الوخيمة والنتائج السيئة المترتبة على ترك التناصر والموالاة، قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:72-73]، وفي الحديث الشريف عن رسول الله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضا))، وقال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)).
والخطوة الرابعة ـ عباد الله ـ التي يجب أن نقوم بها في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي أن نتسامَى فوق خلافاتنا، وأن نضرب بها عرض الحائط، وأن نترفع لصالح الإسلام والوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية عن المصالح الشخصية والمنافع الدنيوية، قال تعالى يعظ المؤمنين في الأنفال التي اختلفوا عليها بعد انتصارهم في غزوة بدر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
إنَّ التنازع والاختلاف وفساد ذات البين يُضْعِفُ الأقوياء ويُهْلِكُ الضعفاء، بينما التعاضد والاتحاد وإصلاح ذات البين يَصْنَع النصر المحقق والقوة المرهوبة، قال تعالى: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وقال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاحُ ذاتِ البيْن، فإنَّ فسادَ ذاتِ البيْن هي الحالقة))، وقال رسول الله : ((دَبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعْر، ولكن تحلق الدِّين)).
والخطوةُ الخامسة ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ التي يجب أن نقوم بها في سبيل الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي أن نتحاشَى الانقسام في شأن أعدائنا؛ لأن الانقسام في شأنهم يشوه صورتنا، ويضعف قوتنا، ويَصُبُّ في الأخير في مصلحتهم لا في مصلحتنا، ولذلك قال جلَّ شأنه منكرًا على المؤمنين اختلافهم في شأن المنافقين: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:88] .
أيها الإخوة المؤمنون، إن الوحدة التي يقيمها الإسلام ليستْ عصبيةً من العصبيات، وليس فيها أيُّ تهديد لأي مجتمع من المجتمعات، وإنما هي طريق وسبيل إلى بناء أمة فاضلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتَخْلُفُ نبيها في إيصال الرحمة إلى العالمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ. وقد أعلن رسول الله في خطبته العالمية يوم حجة الوداع عن اعتدال الإسلام ووسطيته عندما أكد على أن الإنسانية كلها أسرة واحدة: ربُّها واحد، وأبوها واحد، فقال: ((إنَّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد)).
أيها الإخوة المؤمنون، ولزامًا علينا ونحن نتحدث عن الوحدة الإسلامية أن نَعْرِفَ الفضلَ لأهل الفضل، وأنْ نُشِيدَ بتجربة هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين في إقامة الوحدة المنشودة بين الناس.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي قيادتنا الحكيمة عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يبارك هذه الوحدة، وأن يحفظ أمن واستقرار هذا البلد، وأن يجعله وسائر بلاد المسلمين سخاءً رخاءً آمنًا مطمئنًا، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|