.

اليوم م الموافق ‏18/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

فضل التواضع وذم الكبر

4004

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق

عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

الرياض

14/10/1425

جامع الإمام تركي بن عبد الله

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تواضع المؤمن لله تعالى. 2- تواضع المؤمن لعباد الله. 3- داء الكبر. 4- كبر إبليس وأعداء الرسل. 5- أسباب الكبر. 6- وجوب قبول النصح. 7- ذم الفخر والخيلاء.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمِنِ التّواضعَ لله ثم التواضُعَ لعباد اللهِ.

تواضُعُ المؤمن لربِّه لما قام من قلبِه حقًّا من أنّه فقير بذاتِه إلى ربِّه، وأنّ الله جلّ وعلا هو الغنيّ الحميد عنه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]. فاعتقاده الحقُّ أنه الفقير بالذّات لله، وأنه عبدٌ مخلوق مربوب، وأن اللهَ جل وعلا هو الذي خلقه، وهو المتكفِّل برزقه، المالك لسمعِه وبصره وعقله، المتصرّف فيه كيفَ يشاء بكمالِ حِكمتِه ورحمته وعِلمه وعدله، وأنّه لا يملِك لنفسه نَفعًا ولا ضرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نشورًا، لا يستطيعُ أن يجلِبَ لنفسه نَفعًا، ولا أن يدفع عنها ضَررًا، الكلُّ بيد الله وقدرَتِه، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].

فلمّا عظُم الله في قلبِه دعاه ذلك إلى التواضُعِ لله والاستكانة لله والذلّ لله وكمال الافتقارِ لله، دعاه ذلك إلى عبادةِ اللهِ وإخلاصِ الدين لله، إلى قَبول أوامر الله بالامتثالِ، وإلى نواهيه بالانزجارِ والانكفاف.

تواضعٌ لعبادِ الله، دعاه هذا التواضعُ لهم إلى أن يكونَ محِبًّا لهم، لا يحتقرهم، يحبّهم ويُجِلّهم ويعرف لهم حقوقَهم ويعاملهم بمثلِ ما يحبّ أن يعاملوه به. يعرف لهم حقوقَهم، ويعرف لهم واجباتِهم، فيلتزِم ذلك. تواضعٌ يبعِده عن السخريةِ بهم والاحتقارِ لهم والاستهانةِ بحقِّهم، تواضعٌ يدعوه إلى أن يكونَ بعيدًا عن عيبهم وهمزِهِم ولمزهِم وحُبِّ الشر والفساد لهم، تواضُعٌ يدعوه إلى حبِّ الخير لهم، فهو يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.

هذا التواضُعُ الذي تخلَّق به المؤمن يبعِدُه عن الداءِ الرَّذِيل، ألا وهو داء الكِبر والتعاظُم، والنبي يقول: ((لا يدخُلُ الجنةَ مَن في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كبر))، قالوا: يا رسولَ الله، الرجلُ يحبّ أن يكون ثوبُه حسَنًا ونعلُه حسنًا! قال : ((إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكبرُ بَطر الحقّ وغَمط الناس))[1]. فبيَّن حقيقةَ الكبر الذي تُوُعِّد صاحبُه بهذا الوعيد الشديد: ((لا يدخل الجنّةَ من في قلبه مثقالُ ذرّةٍ من كبر))، قال الصحابة: الرجلُ يحبّ أن يكونَ ثوبه ونعلُه حسنًا، أهذا من الكبر؟! قال: لا، ليس هذا من الكبر، إنّ اللهَ جميلٌ يحبّ الجمال، والله يحبّ أن يرى أثرَ نِعَمه على عبده، لكنِ الكبرُ الحقيقيّ ما بيَّنه من قوله: ((بَطرُ الحقِّ وغَمط الناس))، ومعنى ((بطر الحقّ)) ردُّ الحق وعدَمُ قَبول الحقّ والاستكبار والاستعلاء على الحقّ، وهذا شأنُ أعداء الرسُل كلِّهم، فما الذي أوقَعَ إبليس فيما أوقعه فيه سوى تكبره على الله؟! أمر الله الملائكةَ أن يسجدوا لآدمَ، فسجدوا كلُّهم إلاّ إبليس أبى واستكبَر وكان من الكافرين، واعترض على الله بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]. فتكبُّره على الله أدَّى إلى إِهباطه من ملكوتِ السّمواتِ وإلى تخليدِه في عذابِ الله، فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13]، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 78]. فتكبُّره على الله أحبَط كلَّ عملٍ صالح له وأوقَعه فيما أوقعه فيه.

وهكذا أعداءُ الرّسل، إنما حملهم على تكذيب الرّسل ما في قلوبهم من الكِبر والتعاظم على اللهِ، حيث كذَّبوا رسلَ الله وقالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6]. فكلُّ أعداءِ الرسل إنما مَنَعهم من الإيمان ما في قلوبهم من كبرٍ، قال الله جل وعلا في هؤلاء: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، قال جل وعلا: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56].

أيّها المسلمون، إنّ أعداءَ الرسل إنما حالَ بينهم وبين الحقّ الكبرُ في النفوس الذي ملأ قلوبهم حتى تكبَّروا على رسُلِ وكذَّبوهم. محمّد دعا إلى الله وإلى دينِه فكذَّبَه من كذّبَه من قومه، لا اتهامًا له بالكَذِب ولا اتهامًا له بالخيانة، ولكن كِبرٌ في نفوسهم، قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وقال جلّ وعلا عن فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].

أيّها المسلِم، إنَّ للكبر أسبابًا، فمن أسبابِ الكبر ـ والعياذ بالله ـ ما يقوم بقَلبِ العبد من تَعاظمٍ في نفسه وعدَمِ انقيادٍ للحقّ، ذلك أن الذي حمَلَه على الكِبر والطغيان نظرُه لنفسه وعدَم قَبوله لمن دعاه إلى الحقِّ والهدى، مع أنَّ واجِبَ المسلِم إذا دُعِي لحقٍّ أن يقبَله وإذا حُذِّر من باطلٍ أن يجتنِبَه، ولذا قال الله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146]. هكذا حالُ من أزاغ الله قلبَه وأعمى بصيرته، يتكبَّر على الهدى، ولا ينقاد للحقّ، ولا يقبَل الحقّ، ولا يرضى به.

أيّها المسلم، يدعو إلى الكبر أمورٌ:

فأوّلاً: قد يكون علمُ الإنسان الذي يحمِله يدعوه إلى التكبّر والتعاظُم في نفسه، ينظُر إلى نفسِه وأنّه ذو علمٍ ومعرفَة وفَهم وإدراك، وينظُر للآخرين بعَين الاحتقار، أنهم أهلُ جهلٍ وقصورٍ وقلةِ معرفةٍ وعلم، فيدعوه ذلك إلى التكبّرِ عليهم والتّعالي عليهم واحتقارِهم وازدرائهم والنّظَر إليهم نظرَ الاحتقار والاستخفاف والاستهانة. فإنّ هذا عِلمٌ ضارّ؛ إذِ العلمُ النافع يدعو العبدَ إلى التواضع لله، ثمّ التواضع لعباد الله، شكر الله على نعمتِه بهذا العلمِ؛ ليكون ذلك العلمُ سببًا لاستقامةِ الإنسان وتواضُعه، لا سببًا لكبريائه وتعاظُمه في نفسه.

وقد يدعوه إلى الكبر مالُه الذي منّ الله عليه به، فينظُر إلى أموالِه وثرواتِه، وينظر إلى فَقر الفقراء ومَسكنةِ المساكين، فيدعوه ذلك إلى التعاظُم في نفسِه واحتقارِ مَن هو دونَه مالاً ومنصبًا، وتلك البليَّة العظمَى أن يكونَ هذا المالُ سببًا للأشَر والطغيان، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ثم قال: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:6-8].

وقد يدعوه إلى الكبرِ والتعاظُم ما يؤدِّيه من عباداتٍ وطاعات، وينظر إلى أهلِ المعاصي والمقصِّرين في العبادةِ نظرَ الاحتقارِ والازدراء، فيتعاظَم عليهم، ويرى لنفسِه عليهم فضلاً ومكانَة، وهذا ـ والعياذُ بالله ـ قد يؤدِّي بالإنسان إلى الانحرافِ عن الهُدى.

وأنت ـ يا مَن منَّ الله عليك بالمال ـ تذكَّر أنّ هذا المال لم تنَله بحولك ولا بقوّتك، ولكن بفضل الله عليك الذي وسَّع عليك وأعطاك، وقد حُرِمه غيرُك ممّن هو يماثِلُك أو أَقوى منك عَقلاً ورَأيًا، قال تعالى عن قارون أنه قال لما ذُكِّر ووُعظ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي قال الله: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78].

ويا مَن منَّ الله عليه بالعلم، تذكَّر أنّ هذا العلمَ لا يكون نَافعًا إلاّ إذا تواضع صاحبُه لله، وبذَل علمَه لله، وكان علمُه سببًا لتواضعِه في نفسِه وتواضعِه لربّه ثم لعبادِه المؤمنين.

أيّها المسلم، وقد يدعو إلى الكِبر أحيانًا ما يَناله العبدُ من مناصبِ الدنيا ومراكِز الدنيا، فيرى نفسَه ذا شأنٍ وأنّ الآخرين أقلُّ منزلةً منه، فيتعالى ويتكبَّر عليهم، وهذا كلُّه مِنَ المصائِبِ، فإنَّ المؤمنَ كلّما زيدَ في جاهِهِ ومكانتِه زاد ذلك في تواضُعِه لربِّه ثمّ لعباده.

وقد يدعو الإنسانَ إلى الكبر ما [يرى في] نفسِه من صحّةِ بَدَنه وكمال قواه، ويرَى مَن هو دونه في الصحّة والعافية، فيحتَقِره ويزدَريه، وكلُّ هذا من الجهلِ والضّلال.

وقد يدعوه إلى الكبرِ جاهُه وحسَبه ومكانتُه الاجتماعية، فينظر للآخرين بعكسِ ذلك، فيحتقِر من ليس مثلَه أو في مرتبته، ولا يعلم المسكينُ أنّ الله جلّ وعلا إنما يقربُ العبادُ منه بطاعَتِهم له، ولا يقرُبون إليه بأيِّ وسيلةٍ كانت، إنما هوَ التقوى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

أيّها المسلم، عندما تُنصَح في باطلٍ وقعتَ فيه وعندما يُلفَت نظرُك في بلاءٍ ابتُلِيتَ به ومعصيةٍ اقترفتَها ومنكرٍ ارتكبتَه فاقبَل ممّن يدعوك إلى الحقّ، وأحمد الله أن وُجِد لك من ينصَحُك ويوجِّهك ويحذِّرك من سَخَط الله، وإيّاك أن تتكبَّر وتقول لمن نصحَكَ: أمِثلِي ينصَحُه مثلُك؟! أمِثلي ينبِّهُه مثلك؟! لا يا أخي، أنت بحاجةٍ إلى مَن يعِظُك وينصحُك مهما بلَغَت منزلتُك العلميّة أو العِباديّة، فإنّك بحاجةٍ إلى نُصح ناصحٍ وتوجيهِ موجه، فلا تتكامَل في نفسك، ولا تتعاظَم عن قَبول أيّ حقٍّ هُدِيتَ له، ولا عن قَبول أيِّ نصيحةٍ نُصحت بها، فاقبَل الحقَّ ممّن جاء به لتكونَ مؤمنًا حقًّا.

أيّها المسلم، إيّاك وردَّ الحقِّ احتقارًا لمن جاء به، إياك أن تردَّ الحقَّ احتقارًا لمن جاءَ به وتقليلاً لشأنِ من جاء به، فالحقّ هو الأعلَى، فالحق هو العالي وله القَبول، والمخالف للحقِّ هو الهابِط مهما تكنِ الحال.

أيّها المسلم، إنّ النبيَّ قال لرجلٍ أكَل عنده بشماله: ((كُل بيمينك))، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعتَ)) ما مَنَعه إلا الكبرُ، فما رفَعَ يدَه إلى فيه بعد ذلك[2]. ردَّ السنّةَ معلِّلاً أنّه لا يستطيع مع أنه مستطيع، لكن رأى أنفةً أن يأكلَ بيمينِه ويدَعَ أكلتَه بالشِّمال تكبُّرًا على الحقّ، فأدَّى إلى عقوبتِه الدنيويّة أنّه شُلَّت يمينه فما رفَعَها إلى فيه.

أيّها المسلم، احذَرِ الكبرَ في نفسك والتعاظمَ في نفسك، فالله يقول: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:37، 38].

أخبرنا عن رجلٍ ممن قبلَنا، خرج مفتخِرًا بنفسِه [مُعجَبًا بحلَّته] التي يلبسُها، ينظر في عِطفَيه، مرجِّلاً رأسه، يتعاظَم في نفسِه، فخسَف الله به الأرضَ، فهو يتجَلجَل فيها إلى يومِ القيامة[3].

فامش على الأرض مشيَ الهوان، واحذَرِ الكبرَ والتعاظمَ في نفسك، ولا تغترَّ بصحَّتِك وعافيتك. تواضَع لربِّك واشكرِ الله على كلِّ نعمةٍ أنت فيها، واعلم أنّ الفضلَ لله عليك، فأكثِر من الثناءِ والذكر لله، واحذَرِ من الكبرِ والخيَلاء، احذر أن يخدَعَك علمٌ أو مال أو عبادة، قد يكون العبدُ عابدًا لله، مصلِّيًا صائمًا تاليًا، لكن يأتيه العُجب من حيث عمله، فيرى من دونَه ويحتقِرهم ويزدريهم، وقد يعاقَب والعياذ بالله. فإنَّ مَن منَّ الله عليه بالطاعة ومَنَّ عليه بالهداية فليعلَم أنها نِعمة من الله وفضلٌ عليه، والله قادِر أن يسلبَه نعمتَه منه، فلا يحتقِر الآخرين، وإنما يسأل الله للآخرين أن يهديَهم ربهم كما هداه، وأن يمنَّ عليهم كما منَّ عليه، وأن يرشدَهم ويهديَهم كما أرشده وهداه. هكذا يكون المسلم، أمّا أن يحتقرَ الناس أو يزدري بهم، وفي الحديثِ: ((مَن قال: هلَك الناس فهو أهلكهم))[4].

فيا أيّها المسلم، تواضع لربِّك في كلّ أحوالك، تواضع لربِّك تواضعًا يدعوك إلى القيامِ بما أوجب عليك، وتواضَع لإخوانِكَ المسلمين تواضُعًا يدعوكَ إلى معرفةِ حقوقهم والبُعد عن احتقارِهم وازدرائهم. هكذا فليكنِ المؤمن، أسأل الله لي ولَكم التوفيقَ والسداد والعونَ على كل خير.

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هَذا، وأستغفر الله العظيمَ الجَليل لي ولكم ولِسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه مسلم في الإيمان (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الأشربة (2021) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

[3] أخرجه البخاري في اللباس (5789)، ومسلم في اللباس (2088) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.

[4] أخرجه مسلم في البر (2623) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَما يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمدًا عَبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

يقول : ((إنّ الله أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحد ولا يفخَر أحدٌ على أحد))[1].

فيبيِّن لنا أنّ الله أوحى إليه بهذا: أن نتواضعَ فلا يبغي بعضنا على بعض، فلا يظلِم بعضنا بعضًا، ولا يتعدّى بعضنا على بعض، وأوحى إليه أن نتواضعَ، فلا يفخَر بعضنا على بعض، فبأيِّ شيء يكون الفخر؟! فحرُك ـ أيها المسلم ـ طاعتُك لله واستقامتُك على الهدَى وسلوكك الطريقَ المستقيم، هذا والله هو الفخر والسّؤدَد لمن اتَّقى الله وعَرَف الحق من الباطل.

أيّها المسلم، يقول : ((إنّ النار والجنّة احتجتّا، فقالت الجنة: فيَّ ضُعَفاء المسلمين ومساكينُهم، وقالت النار: فيَّ الجبّارون والمتكبِّرون، فقال الله: أنتِ الجنّةُ رحمتي أرحَم بكِ من أشاء، وأنت النار عذابي أُعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها))[2].

أيّها المسلم، تذكّر أن تكبُّرَك في الدنيا ذلٌّ لك في الدّنيا وصَغار لك في الدنيا وإن جامَلَك من جاملك وصانَعَك من صانَعَك وخَدَعك بالتعظيم والتّبجيلِ من خدَعَك، ففي قلوبِهم كراهيةٌ لك وبُغضٌ على كِبرك وتِيهِك، ويومَ القيامة يحشَر المتكبرون أمثالَ الذّرِّ على صوَرِ الرجال يطؤهُم الخلائِقُ لهوانهم على الله.

أيها المؤمن، الزَمِ التواضعَ وابتعِد عن الكبر، فهو سعادةٌ لك في دنياك وآخرَتِك، وسبب لحبِّ الناس لك وإلفِهم لك، إن أحسّوا منك بكبرٍ في نفسِك عليهم قَلَوكَ وابتَعَدوا عنك ونفَروا منك ولم يكن لك مقامٌ بينهم. فحاسِب نفسَك، واتَّق الله في نفسك، وتواضع لربّك، واعلم أنّ إلى الله مردَّك ومصيرك، وإنما فخرُ الإنسان بما يخلِّده من عملٍ صالح وذِكر حسن.

أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.

واعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخَير الهَديِ هدي محمّد ، وشَرّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعَةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.

وصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمَرَكم بذلك رَبّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائه الراشدين...

 



[1] أخرجه مسلم في الجنة (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في التفسير (4850)، ومسلم في الجنة (2846، 2847) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً