الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروا الجار حق قدره، واحذروا أذيته، فهو أول حق لكل جار على جاره، أن يكفّ أذاه عنه، بأي صورة كان الأذى، حسي أو معنوي، في دينه أو ممتلكاته أو عرضه وهو أشدّ.
أيها الإخوة في الله، وثاني حقوق الجار على جاره: حمايتُه، فمن الوصاية بالجار ومن حقه حمايتُه، سواء كان ذلك في عرضه أو بدنه أو ماله، فقد كانت العرب تفاخر بحماية الجار حتى ملأت أشعارهم:
وإني لأحمي الجار من كل ذلةٍ وأفرح بالضيف المقيم وأبهج
أما ما يحدث اليوم من إخلال بهذا الحق بين الجيران فأمر لا يجوز، كالاحتقار له والسخرية به، إما لفقره أو لجهله أو بكشف أستاره؛ لأن الجار أقرب الناس إلى جاره، أو بتتبع عثراته والفرح بزلاّته، أو تنفير الناس من الجار إذا أرادوا خِطبة منه أو تعاملاً معه، كل ذلك دون ما مناسبة، وإنما لؤمًا وخسّةَ طبع وقلّة دين.
وثالث الحقوق بين الجيران: الإحسان، فلا يكفي الإنسان في حسن الجوار أن يكفّ أذاه عن جاره، أو أن يدفع عنه بيده أو جاهه يدًا طاغية أو لسانًا مفزعًا، بل يدخل في حسن الجوار أن يحسن إليه في كافة وجوه الإحسان، فذلك دليل الفضل وبرهانُ الإيمان وعنوانُ الصدقِ والعرفان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره))، وفي رواية: ((فليكرم جاره)).
فمن حسن الجوار أن تعزّي جارك عند المصيبة، وتهنئه عند الفرح، وتعودَه عند المرض، وتبدأه بالسلام، وتُطلق له وجهك عند اللقاء، وترشدَه إلى ما ينفعُه في أمر دينه ودنياه، وتواصلَه بما تستطيع من ضروب الإحسان، فقد يكون محتاجًا مُعدمًا، أو قد ركبته الديون، أو لديه مريض، أو في البيت أرامل وأيتام، وأنت لا تعلم عنهم شيئًا، وهم أولى بالإحسان من الأباعد.
ومن الإحسان للجيران تفقّدهم بالطعام، فمع أنه لا يكلف شيئًا إلا أن الغفلة عنه بين الجيران كبيرة، وآثاره في التآلف بينهم عظيمة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي : ((إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف))، وقال رسول الله : ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)).
ومن صور الإحسان بين الجيران التهادي بينهم، فقلّ أن يسلم الجيران من هفوات وزلاّت، فتأتي الهدية لتزيل وتذيب ما قد يحصل في نفوس من حزازيات وظنون سيئة.
إن الهـديــــة حلـــوةٌ كالسحر تجتذب القلوبا
تدني البعيــد عـن الهـــوى حتى تصـيّره قـريبًـا
وتعيـــد مضطعـن العـــدا وة بعـد بُغضته حبيبـًا
تنفي السخيمة عـن ذوي الشحـ ـنا وتمتحق الذنـوبـا
قال رسول الله : ((تهادُوا تحابُّوا))، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارتين، فإلى أيهما أهدي؟ ـ دلالة على تواصل السلف والنساء بالهدايا ـ قال: ((إلى أقربهما منك بابًا)).
وينبغي أن لا يحقر الجار هديةً جاءته من جاره مهما كانت، فإن ذلك من الكبر المذموم، فإن الهدية لا تقدّر بقيمتها، وإنما تقدر بمعناها، قال النبي : ((يا نساء المؤمنات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فِرسن شاة)) أي: العظم قليل اللحم، وهو خفّ البعير. والمقصود به هنا حافر الشاة. ولعلّ النبي خصّ النساء هنا المتجاورات بالتهادي لأنه يكثر منهن الاحتقار للهدية أو للمُهدي، ولأنهن أكثر التصاقًا بالجيران من الرجال، ولأنهن موارد المودة أو البغضاء بالجيران.
عباد الله، ورابع الحقوق بين الجيران: احتمال أذى الجار، فللرجل فضلٌ في أن يكفّ عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذودَ عنه ويحميه، وله فضل في أن يواصلَه بالإحسان إليه جهده. وهناك فضل رابع وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفحِ كثيرًا من زلاّته وإساءاته، ولا سيما إن صدرت عن غير قصد. فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم، وقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به، روى المروذي عن الحسن: "ليس حسن الجوار كفّ الأذى، حسنُ الجوار الصبر على الأذى".
وكم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثيرُ الخصومة والملاحاةِ مع جيرانه، يشاجرُ على كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، أو تطوّرَ إلى الشُرطِ والمحاكم، وعلى أمور لا تستدعي. وكم من جيران تهاجرُوا وتقاطعُوا عند أسباب تافهة أو ظنون سيئة، أو لخلافات يسيرة، لا تستدعي ما وصلت إليه.
ومما جعل هذه الأخلاق المبغوضة توجد بين بعض الجيران قلّة حرص الجيران على إصلاح ذات بينهم، بل ـ والعياذ بالله ـ قد يوجد من حمّالة الحطب من يغري العداوة ويذكي أوارها بين جيرانه.
فالواجب على الجيران احتمالُ بعضهم بعضًا، فإذا ما حصل نزاع أو خصومة سعى الأخيار في الإصلاح بين المتنازعين، وعلى الجار أن يقبل بالصلح ويفرح به ويشكرَ من سعى له، لا أن يرفض ويستعلي. فالجار أولى بالعفو من غيره، والتغاضي عن زلته، خصوصًا إذا كان ذا فضل وإحسان.
وإذا الحبيبُ أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسنُه بألف شفيع
وليس من حق الجار على جاره أن يردّ الأذى بمثله والإساءة بأختها، فالله تعالى يقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال: ((اذهب فاصبر))، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: ((اذهب فاطرح متاعك في الطريق))، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع، لا ترى شيئًا تكرهُه.
فالصبرُ واحتمالُ الأذى والعفوُ والصفحُ هو الأولى بين الجيران كما قال أحدهم:
أقول لجاري إذا أتـاني معـاتبـًا مُدِلاًّ بحـقٍّ أو مُـدلاًّ بباطـلِ
إذا لم يصل خيـري وأنـت مجاورٌ إليك فما شرّي إليك بواصـل
قال رسول الله : ((ثلاثة يحبهم الله)) وذكر منهم: ((والرجل يكون له الجار يؤذيه جارهُ فيصبر على أذاه حتى يفرّق بينهما موتٌ أو ظعن)).
أيها المؤمنون المتحابون المتآلفون، هذه هي حقوق الجار على جاره، فكم فينا من تقصير، وكم في تعاملنا مع جيراننا من خلل ونقص، مع أن حقّه عظيم، ولا غرابة بعد هذه الحقوق أن يظن النبي أن الله سيورثُ الجار الجار.
عباد الله، هنيئًا لمن وفّقه الله لجار صالح، فإن الجار الصالح الذي يرعى هذه الحقوق مكسبٌ وسعادة فـ((من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء)) هكذا أخبر رسول الله . وللأسف تجد الكثير من الناس لا يبالي باختيار الجار الصالح، خاصة إذا أراد بناءَ منزل جديد أو شراءَه، فتراه يحرص على حسن الموقع وقربه من الخدمات، أما صلاح الجيران من عدمه فلا يهمه ذلك، وهذا خلل كبير، فالجار قبل الدار كما أُثر عن علي رضي الله عنه.
وقد كان السلف الصالح والكرامُ من الناس لا يؤثرون بالجار الصالح مالاً ولا عرضًا من الدنيا، فهذا أبو الجهم العدوي باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟ قال: ردّوا عليّ داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدتُ سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبتُ حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرَّج عني، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فالجارُ الصالح له منزلةٌ عند العقلاء ومن يقدُرون المكارم قدرها، فهم يحرصون عليه، ولا يفرّطون في مجاورته إن أراد الانتقال عنهم، بخلاف جار السوء ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ فقد تعوذ منه النبي في دعائه فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار الدنيا يتحوّل))، فهو إذًا من البلاء ومما يتعوذ منه، فقد لا يطيقُ الإنسانُ احتمال أذى الجار السيئ وإهانتَه ومذلتَه له أو مضرته له في دينه أو عرضه، فإن الحزم والحكمة يقتضيان أن يرتحل عن داره ما دام هذا وصف جاره.
وفي هذا يُحكى عن رجل أنه كان مجاورًا لجيران سوء، فصبر عليهم وصابر، إلا أنهم يزدادون سوءًا، فباع داره برُخصٍ وانتقل عنهم، فلامه أقاربُه ومعارفُه لومًا شديدًا فقال:
يلومونني إذ بعـت بالرخص منزلاً ولم يعرفوا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم: كفّـوا الكلام، فإنهـا بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
|