أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ بتقوى الله سبحانه وتعالى، فنعمت بضاعة المؤمن التقوى، وهي وصية الله للخلق أجمعين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
عباد الله، نعم الله على عباده لا تحصى، غير أن هناك نعمة هي أعظم النعم على المسلمين قاطبةً، إنها نعمة الإسلام ودين الحنيفية ملة إبراهيم، الإسلام الذي هو الاستسلام لله تعالى والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وما من عبادةٍ شرعها الله عز وجل إلا وهي داخلة في الإيمان، يزيد الإيمان بفعلها، وينقص بتركها أو التهاون بها.
وإن من أوائل ما نزِّل على رسولنا من التشريعات قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكافر يوصف بالنجاسة فبعكسهم المؤمن، قال الله تعالى عن المشركين: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجاسات كلّها.
ولقد امتازت أمة الإسلام عن غيريها من الأمم بالطهارة والنظافة، حتى إن الطهارة من الأحداث تعادل نصف الإيمان، يقول أبو مالك الأشعري: قال رسول الله : ((الطهور شطر الإيمان)) رواه مسلم.
عباد الله، الوضوء هو النظافة والطهارة، فإذا تنظف المصلّي صار وضيئًا مشرقًا مقبلاً على الله. والوضوء فريضة لازمة على كل مسلم، يقول الله تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].
إن أعظم ما شرع له الوضوء هو الصلاة، يقول الرسول : ((لا يقبل الله صلاةً بغير طهور)) رواه مسلم، وروى البخاري ومسلم أيضًا أن النبي قال: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)).
إن من رحمة الله تعالى بكم ـ أيها الناس ـ أن شرع لكم من العبادات ما يكون سببًا لتكفير السيئات، وإن الإنسان لا يمكن أن يصدر أيّ عملٍ إلا من أحد أربعة مواضع هي: الوجه واليدان والرأس والرجلان، فحواس الإنسان تجمَع في هذه المواضع، وقد جاء الوضوء ليكون مكفّرًا لكل ما يصدر من هذه الأعضاء، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا توضأ العبد المسلم ـ أو المؤمن ـ فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًا من الذنوب))، وروى مسلم أيضًا أن الرسول قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)).
عباد الله، إذا جاء يوم القيامة واختلطت الأمم امتازت أمّة محمد بالوضوء، فعن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فرّوخ، أنتم ها هنا؟! لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك))، فقال رجل: يا رسول، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟! قال: ((هم غر محجَّلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعَى بين أيديهم ذرّيَّتهم)) رواه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين.
عباد الله، الوضوء سبب لتكفير الذنوب والخطايا، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من امرئٍ مسلمٍ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كله)) رواه مسلم.
الصلاة مِفتاح الجنة، ومفتاح الصلاة الوضوء، يقول الرسول : ((مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء)) رواه أحمد والترمذي، بل الوضوء وحده ـ عبادَ الله ـ موجبٌ لانفتاح أبوابِ الجنة الثمانية يتخيَّر العبد أيّها شاء كما صحّ ذلك عن الرسول كما في صحيح مسلم.
عبادَ الله، الشيطان خلقه الله من نارٍ، والنار إنما تطفأ بالماء، ولأجل ذا شرع الوضوء في المواضع التي يشعلها الشيطان أو يحضرها، فالوضوء يخمد ثوران النفس، يقول الرسول : ((إذا غضب أحدكم فليتوضأ)) رواه أحمد.
الإبل خُلقت من شياطين، ألم تروا إلى ما يصاحِب أصحابها من الخيلاء والأنفة والكبر، ولهذا أمر المصلي أن يتوضأ من لحوم الإبل.
إنّ شأن الوضوء أعظم من ذلك، هو طارد للشيطان، قاطعٌ لدابره، فإذا أراد النائم أن يرتاح في نومه فعليه أن يتوضّأ، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك...)) الخ الدعاء المتفق عليه. فإذا نام الإنسان على غير وضوء فإنّ نومه مجال للشيطان يلعب فيه ويشوش، فإن استيقظ النائم فبدأ بالوضوء أفسد على الشيطان كلّ ما صنع، يقول الرسول : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدةٍ يضرب: عليك ليل طويل، فإذا استيقظ فذكر الله عز وجل انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإن قام فصلى انحلت عقده الثلاث، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) متفق عليه. ولا غروَ ـ عباد الله ـ إن فرط النائم في هذه الأمور أن يبولَ الشيطان في أذنيه، ولما أخبِر الرسول عن رجل نام حتى أصبح قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)).
عباد الله، الوضوء مشروع في مواضِع كثيرة، فلا يمسّ القرآن إلا طاهر، ولا يطوف بالبيت محدِث، وإذا كان الإنسان جنبًا فأراد أن يأكل فيسنّ له أن يتوضّأ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا كان جنبًا فأراد أن يأكلَ أو ينام توضأ للصلاة. رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا أن الرسول قال: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ)).
العين حقّ، ومن عان أخاه فليتوضّأ له. لما اغتسل سهل بن حنيف بالخرار، نزع جبةً كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، وكان سهل رجلاً أبيض حسنَ الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء!! فما تعدّى سهل مكانه حتى وعِك ومرض، فأخبر الرسول فقال: ((علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برّكت عليه؟! إن العين حقّ، توضّأ له))، فتوضأ له عامر، فقام سهل ما به بأس. رواه مالك والموطأ.
فاتقوا الله عباد الله، وواظبوا على ما أمركم، تفوزوا وتفلحوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|