الحمد لله الذي تفرد بالعزة والجلال، وتوحد بالكبرياء والكمال، وأذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضل سبحانه على المطيعين بلذيذ الإقبال، نعّمهم في الدنيا بمعرفته وخدمته، وأكرمهم في العقبى برؤية وجهه، والنعيم في الحال والمال. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نفاد لملكه ولا زوال، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أيده بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة وزينة بأشرف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة بالغدوّ والآصال.
أما بعد: أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس، يا من شرفكم الله بشرف الرباط على ثغر من ثغور الإسلام، يا عمّار المسجد الأقصى وحماته، كرر وزير الداخلية الإسرائيلي مجدّدا الحديثَ عن جماعات يهوديّة متطرّفة تسعى إلى القيام بهجمات في هذا المسجد المبارك وإلحاق الأذى بالمصلين والمسلمين، وأضاف أنه لا يستطيع الكشف عن تفاصيل هذه الهجمات. قال: إذا أوصى جهاز الاستخبارات العسكرية باعتقال المتطرّفين فسيعمل على اعتقالهم.
إذًا فخيوط المؤامرة وتفاصيلها ومن يقف وراءها ومن هم أبطالها أصبحت معلومة لدى الحكومة الإسرائيلية، دون أن تقوم بأي فعل ضدّ هذه الجماعات، إن كانت جادّة بعدم إراقة المزيد من الدماء، وإن كانت جادة بعدم تفجير الأوضاع في المنطقة. إن هذا لشيء عجاب، وهو في غاية الاستغراب، واستخفاف ما بعده استخفاف بالأمة الإسلامية في أرجاء المعمورة.
أيها المسلمون، هذه التحذيرات تترك عدّة تساؤلات: هل هي لإعطاء الضوء الأخضر أمام الجماعات اليهوديّة المتطرّفة للاعتداء على المسجد الأقصى والمساس بالمصلّين بين يدي الله؟! هل هي لجسّ نبض الشارع الإسلامي على الصّعيدين الرسميّ والشعبي؟! هل هي لتخويف المسلمين وإرهابهم ومنعهم من التواجد في المسجد الأقصى؟!
أيها المسلمون في رحاب المسجد الأقصى، ومن منبر الفاتح صلاح الدين نحمِّل الحكومة الإسرائيلية ما يجري وما سيجري داخل المسجد الأقصى. فالسماح لليهود بالدخول والتجوّل في ساحات المسجد الأقصى وعلى صحن قبّة الصخرة المشرّفة وحول أسوارة وبحماية رجال الشرطة وحرس الحدود تحت ذريعة السياحة قد أعطى الفرصة للمتربصين بالمسجد من التخطيط والترتيب والمؤامرة، وكيف يتم تنفيذ المخطط الإجرامي لا سمح الله.
عباد الله، إن الحركة الصهيونية لم تخف أطماعها بالسيطرة على منطقة المسجد الأقصى، بتحقيق الحلم المزعوم بإقامة ما يسمّى الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى وفق المسلسل التالي:
أولاً: بعد حرب عام 67 بأيام قليلة قامت جرافات إسرائيلية بإزالة حي المغاربة الإسلامي الملاصق للجهة الجنوبية الغربية من المسجد بما فيه من مبان وعمائر ومساجد، تعود للأوقاف الإسلامية ساحة البراق، أو ما تسميه ساحة المبكى.
ثانيا: جريمة إحراق المسجد الأقصى في عام 69 والتي تصادف هذا الشهر في الحادي والعشرين من شهر آب، حيث أتى الحريق على منبر السلطان الأكبر صلاح الدين، والذي لم يتم إيجاد البديل عنه حتى يومنا هذا.
ثالثا: القيام بالحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى، وكان أخطرها التي وصلت تحت سبيل"قايتباي" من الجهة الغربية للمسجد في عام 79، وقام المسلمون بردمه وإغلاقه في ذلك الوقت.
رابعا: استمرار المحاولات من جماعة ما يسمّى "أمناء جبل الهيكل" بدخول المسجد لإقامة الصلاة فيه.
خامسا: في نيسان عام 82 أطلق أحد الجنود الإسرائيليين النار على المصلين، في صحن الصخرة المشرفة، أدت إلى استشهاد اثنين من المصلين بينهم حارس، وجرح ستّ مصلين. الصحف الإسرائيلية ووسائل إعلامهم آنذاك أفادت أن الجندي الإسرائيلي معتوه مجنون، فالعجب العجاب: لا يقوم بالاعتداء على الأقصى إلا المجانين.
سادسا: في عام 84 تم اكتشاف مؤامرة خطيرة من تنظيم سري خطّط لنسف المسجد الأقصى لولا رعاية الله ثم يقظة حراس المسجد.
سابعا: في اليوم الثامن من تشرين الأول عام 90 حدثت المجزرة الإرهابية واستشهد فيها ما يزيد عن عشرين شهيدا، وأكثر من ألف جريح.
ثامنا: في أيلول عام 96 تم اكتشاف شقّ النفق من ساحة البراق غلى ساحة العمرية، وقد أعقب ذلك مواجهات عنيفة على امتداد الأرض الفلسطينية، أدت إلى استشهاد 86 شهيد ومئات الجرحى.
تاسعا: وفي الثامن والعشرين من أيلول عام ألفين اندلعت انتفاضة الأقصى إثر قيام رئيس وزراء إسرائيل الحالي بدخول المسجد الأقصى بحماية مئات الجنود الإسرائيليين، هذه الانتفاضة لا تزال تداعياتها وآلامها تفتك بشعبنا المرابط، فقد استشهد حتى الآن قرابة أربعة آلاف شهيد، وأصيب ما يزيد عن خمسين ألف جريح، وعشرات الآلاف من السجناء والشرفاء، وقرابة ألف منزل تم تدميرها وإزالتها.
عاشرا: منع السلطات الإسرائيلية حتى اليوم دائرة الأوقاف الإسلامية من قيامها بمهامها من أعمال الترميم والتبليط والصيانة، وحرمانها من إجراء أي تصليحات داخل المسجد.
والأنكر من ذلك أن المتطرفين اليهود طالبوا المحكمة العليا الإسرائيلية بإصدار قرار منع المسلمين مِن دفن موتاهم في مقبرة "باب الرحمة"، هذه المقبرة التي تجمع رفاتَ الصحابة الأبرار والشهداء الأخيار وأهل العلم والصلاح من أبناء المسلمين والمجاهدين عبر القرون الماضية أمثال: عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، هذا غيض من فيض من الجرائم المحمومة ضدّ المسجد الأقصى. إضافة إلى ذلك حرمان المسلمين من أبناء الضفة الغريبة وقطاع غزة من الدخول إلى القدس والوصول إلى المسجد لأداء الصلوات فيه.
ولا يفوتني من أن أشير إلى ما يتعرض إليه السجناء من ممارسات قمعية ووحشية، حتى أبناء القدس الشريف يزيدون الطين بلّة، فيقومون بفتح محلاتهم، وتستمر عمليات البيع والشراء خلال أداء صلاة الجمعة وخاصة أثناء الخطبة.
فالواجب عليكم ـ يا أبناء بيت المقدس ـ لا بد أن يبقى طابع المدينة المقدسة موجودا لدى المسلمين، فأنتم من شرّفكم الله بالسكن حول بيته، وحافظوا عليه وعلى عمارته، ولا تكونوا أول كافر به، واتقوا الله في دينكم ومسجدكم.
أيها المسلمون، أين ما يسمّى منظمة المؤتمر الإسلامي؟! أين ما يسمى لجنة القدس؟! أين ما يسمى جامعة الدول العربية؟! ماذا تنتظر أمتنا الإسلامية إزاء هذه التحذيرات والتلميحات من خطر وشيك يحيط ويحاك بالمسجد الأقصى؟!
أيها المسلمون، أيها الحكام والقادة، أفيقوا من سباتكم فإن الله لن يرحمكم، وإن غضب الله سينزل عليكم إن لم تتحركوا وتوقفوا هذا العدوان، عودوا إلى رشدكم قبل فوات الأوان، وعندئذ لات ساعة ندم ولا حين مناص. وحّدوا صفوفكم قبل أن يجرفكم تيار التطرف من أعدائكم.
وأما أنتم يا أبناء صلاح الدين، المطلوب منكم التواجد في هذا المسجد المبارك، شدوا الرحال إليه دائما، وليس في أيام الجمعة فقط، وليس في شهر رمضان فحسب. وقد ورد في بعض الأقوال أن من أتى هذا المسجد وصلى فيه وتصدق بما قل أو كثر ثم دعا الله تعالى استجيب له الدعاء وكشف الله عن حزنه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإن سأل الله الشهاده أعطاه إياها.
وتذكروا ـ أيها المسلمون ـ أن مسجدكم ليس فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبيّ مرسل، أو قام عليه ملك مقرب، وأن نبيكم صلى فيه بالأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاكم من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا مباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم بهذه النعمة التي ليس بعدها نعمة.
فتمسّكوا ـ أيها المسلمون ـ بهذا الفضل الكبير، وبيعوا أنفسكم في رضا الله وعبادته إذ جعلكم من خيار عباده، وإياكم أن يستزلّكم الشيطان وأن يتخاذلكم الطغيان.
فاتقوا الله يا عباد الله، واحفظوا الله يحفظكم، وانصروا الله ينصركم، واذكروا الله يذكركم، واشكروا الله يزدكم ويشكركم.
الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر.
عباد الله، أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره، وأيدنا وإياكم بنصر من عنده، إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
|