أما بعد: عباد الله، لقد نجح سلفنا الصالح في معاملاتهم مع الله، فقد خلّصوا الأعمال من الأكدار نفلاً وفرضًا، واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى، وغضّوا أبصارهم عن الشهوات غضًّا، فإذا أبصرتهم رأيت أجسادًا مرضى، وعيونًا قد ألفت السهر ما تكاد تطعم غَمضًا، بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تنقضي، فأمدهم بالعون السرمدي، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52].
ابتلاهم فرضوا وصبروا، وأنعم عليهم فاعترفوا وشكروا، وجاؤوا بكل ما يرضي ثم اعتذروا، وجاهدوا العدو فما انقشعت الحرب حتى ظفروا، فنالوا غاية الإمكان والعطاء فربحوا.
لله درهم، فقد أخلصوا الأعمال وحققوها، قيّدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلّصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الرذيلة فمحقوها، فنالوا الرضا والرضوان، وتبوّؤوا أعلى درجات الجنان، فطوبى لهم وحسن مآب.
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟! هل كذب الله رسله؟! هل غش خلقَه وسلك بهم طريق الضلال؟! نعوذ بالله. هل أنزل الآيات البيّنات لغوًا وعبثًا؟! هل افترت عليه رسله كذبًا؟! هل اختلقوا عليه إفكًا؟! هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها وإشارات لا يدركونها؟! هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟! نستغفر الله.
أليس قد أنزل القرآن عربيًا غير ذي عوج، وفصل فيه كل أمر، وأودعه تبيانًا لكل شيء؟! تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولاً كذّابًا، ولا أتى شيئًا عبثًا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلاً، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن السبيل، وحرام تحريف الكلام عن موضعه.
هذا عهده إلى تلك الأمّة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل الله لمجدها أمدًا ولا لعزتها حدًا.
هذه الأمة أعدادها كبيرة، وأراضيها كثيرة، تربتها طيبة، وديارها رحبة، ومنابتها خصبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتسلط الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبًا شعبًا، ويتقاسمون أرضهم قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تسمع، ولا أمرًا يطاع، حتى إن الباقين من حكامها يمسون كلّ يوم في ملمة، ويمسون في كربة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلمّ بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
هذه الأمة التي كانت الدول العظام يؤدّين لها الجزية عن يد وهي صاغرة، استبقاءً لحياتهم، وحكامها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلّف إلى تلك الدول الأجنبية، يا للمصيبة ويا للرزيّة.
أليس هذا بخطب جلل؟! أليس هذا ببلاء نزل؟! ما سبب هذا الهبوط؟ وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالعهود الإلهية؟! معاذ الله، هل نستيئس من رحمة الله؟! نعوذ بالله، هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد ما أكده لنا؟! لا كان شيء من هذا ولن يكون، فعلينا أن ننظر في أنفسنا، ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننًا متبعة ثم قال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
عباد الله، هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة، لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنة الله تعالى في الخلق والإيجاد وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال.
علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمعن مداركنا، ونسبر أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا، لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان؟ هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح؟ هل غيّر الله ما بنا قبل أن نغيّر ما بأنفسنا وخالف فينا حكمه وبدّل في أمرنا سنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون، بل صدقنا الله وعده حتى فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئًا، فبدّل عزّنا بالذل، وسُموَّنا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية، نبذنا أوامر الله ظهريًا، وتخاذلنا عن نصرته، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة والإنابة إليه.
عباد الله، أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلب؟! هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، خسروا الدنيا والآخرة؟! هل ظنوا أن الله لا يعلم ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟! ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث عن الطيب؟! هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصرة الله وإعلاء كلمته، لا يبخلون في سبيله بمال؟! فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟!
إنما المؤمنون هم الذين قال لهُم النَّاس: إنَّ النَّاسَ قد جمَعوا لكُم فاخشوهُم، فزادهُم إِيمانًا وقَالوا: حَسبُنا الله ونعمَ الوكِيل.
فلينظر كلّ إلى نفسه، ولا يتتبّع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطابق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين وما جعله من خصائص الإيمان، فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.
يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يثبت ذلك نص الكتاب العزيز وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة والمتّسِمون بسمة الإيمان أهلون لكل أرض متمكّنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نصرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية؟!
ألا يا أهل القرآن، لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم، مع مراعاة الحكمة في العمل، كما كان سلفكم الصالح.
ألا يا أهل القرآن، هذا كتابكم فاقرؤوا منه: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ [محمد:20].
ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟! نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسرّ مؤمنًا أن يتناوله هذا الوصف المشار إليه بالآية الكريمة أو أنه قد غرّ الكثيرين من المدّعين للإيمان ما زيّن لهم من سوء أعمالهم، وما حسنته أهواؤهم؟! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
أقول ولا أخشى نكيرًا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يجد في ذلك عذرًا ولا علة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله هو آية للنفاق وعلامة للبعد عن الله.
ومع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاء به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضًا وأن يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين وأحيوا روح القرآن وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يخلف لرأيت الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيت نورًا يبهر الأبصار وأعمالاً تحار فيها الأفكار.
وإن الحركة التي نراها في نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تشهد أن الله قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين ويوحّد بها بين جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبًا، فإن فعل المسلمون ذلك وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم صحت منهم الأوبة، ونصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين.
فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله، جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
عباد الله، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، يا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|