الحمد الله الذي قص لنا من آياته عجبا، أفادنا بتوفيقه إرشادا وأدبا، وأرسل فينا رسولا كريما وخصّنا بشريعته القويمة وحبَا، فآمنّا وصدقنا وله الفضل علينا وجبا، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، حمدا أرغم به أنف من جحد وأبى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون للنجاة سببا، ونشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المجتبى أشرف البرية حسبا ونسبا، صلى الله عليه وعلى آله السادة النجبا، وأصحابه الذين سادوا الخليقة عجما وعربا، وهم ولاة الحق وقضاة الخلق، ومنهم من أنفق في سبيل الله وجهّز، ومنهم من قتل أعداء الله وأجهَز، ومنهم الأشدّاء على الكفار ومنهم الأسد إذا زاغت الأبصار، ومنهم الساجدون الراكعون، ومنهم السابقون الأولون، ومنهم التابعون واللاحقون، ونسألك يا الله يا كريم في هذا المكان الطاهر أن تحشرنا في زمرتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الممارسات الظالمة ضدّ أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم في الأرض الفلسطينية عامة وضدّ أبناء القدس بصفة خاصة تلقي بظلالها القاتمة على واقع المدينة وشعبها ومستقبلها الغامض، وتبرز مجدَّدا قضية القدس محاطة بقلق أبنائها وأفكارهم المشوشة على مستقبلهم الاجتماعي والتربوي والسياسي والاقتصادي.
فمضي إسرائيل قدما في بناء جدار الفصل العنصريّ سيجعل المدينة المحاصرة أصلا تقبع داخل هذا الجدار الظالم، وتعزل المدينة عزلا تاما عن باقي مدن الضفة الغربية، والشائعات التي تطلق هنا وهناك وتقض مضاجع أهل المدينة سرعان ما تصبح واقعا ملموسا وأمرا مفروضا على الجميع، وتداول الشائعات وإطلاقها إنما يهدف إلى جسّ نبض الشارع المقدسي الذي لا يملك حولا ولا قوة بتغير السياسة الإسرائيلية نحو المدينة.
وقبل أن نتطرق إلى ما يتداوله الناس من الأقاويل والكلام هنا وهناك نود أن نؤكد ما قلناه مرارا أن اهتمامنا بقضية القدس ينبع أساسا من أهمية توعية المسلمين في كل مكان وتنبيههم إلى المخاطر المحدقة بالمدينة التي تستهدف إسلاميتها.
أيها المسلمون، عندما تتولّد لدينا القناعة التامة والإيمان الأكيد أن صراعنا هو صراع عقدي بين الإسلام وبين أعدائه فإننا ندرك إدراكا أكيدا أن الفكر الصهيوني عبر مؤسّساته الرسمية وغير الرسمية ورغم اختلاف الأسماء والمسميات وتعدد الأهداف، فإن إسرائيل تعمل على تهويد مدينة القدس منذ عام 1967م، إن تهويد القدس يسير في مسارين مترابطين: التغير الطبغرافي على الأرض والتغير السكاني، أما التغير الطبغرافي فإنه يتم من خلال عدة أمور منها:
أولا: إحاطة القدس بمدن استيطانية ذات طابع استراتيجي وقلاع محصنة من جميع الجهات وستكون معززة بمد سكاني.
ثانيا: عدم السماح لأبناء القدس بالبناء أو التوسّع السكاني الأفقي، وذلك عن طريق منع رخص البناء من قبل ما يسمى بلدية القدس والتي تعتبر عندهم إحدى المؤسسات الرسمية الحكومية باعتبار الأراضي هي أراضي خضراء يمنع فيها البناء، وفي هذا تحجيم للنمو العربي الإسلامي في مدينة القدس.
ثالثا: استمرار الحفريات في محيط المسجد الأقصى المبارك من ناحية، لإثبات وجود آثار يهودية في المنطقة تعزز من وجودهم للسيطرة على المسجد لا سمح الله، وفي نفس الوقت منع دائرة الأوقاف الإسلامية من إجراء أي ترميمات أو إصلاحات داخل المسجد الأقصى أو حتى في محيطه.
رابعا: والطامة الكبرى تأتي بإقامة جدار الفصل العنصري والذي يحدّد ويرسم معالم المدينة وفق المخطط الإسرائيلي الجديد.
أما على صعيد الديمغرافي السكاني فإسرائيل تسعى إلى تحقيق تفوق سكاني عددي لليهود في محيطها أو داخلها من خلال أمور عدة:
أولا: زيادة عدد المستوطنين داخل المستوطنات المقامة حول مدينة القدس.
ثانيا: تفريغ قلب المدينة من سكانها الأصليين بالتشديد أو المضايقات أو الإغراءات المالية لشراء العقارات والبيوت داخل البلدة القديمة أو خارجها، إن الذي يتجول في أحياء وأزقة وحارات البلدة القديمة يدرك عمق المأساة وصعوبة الحياة، أما الشائعات التي تسود هنا وهناك فهي:
أولا: فرض الجنسية اليهودية على سكان المدينة كما هو الحال بالنسبة للهوية الإسرائيلية وللفلسطينيين في الداخل، وعدم التنقل بين القدس ومدن الضفة إلا بالتصاريح.
ثانيا: عدم السماح بأي حال من الأحوال بعمليات جمع شمل الأزواج من أبناء القدس مع أبنائهم أو زوجاتهم أولادهم المتزوجين من أبناء الضفة الغربية وغير ذلك.
ثالثا: إجراء مسح سكاني للمناطق بعد بناء الجدار لمعرفة من يحمل الهوية الزرقاء ممن لا يملكها.
رابعا: إخضاع أبناء القدس للمزيد من المضايقات والملاحقات الضريبة واستمرار فرض القيود على البناء وسياسة هدم المنازل غير المرخصة على حد زعم البلدية.
أيها المسلمون، إن هذه الشائعات إنما يراد منها تفتيت إرادة شعبنا والنيل من صموده وتشتيت أفكاره، ولكن شعبنا في هذه الأرض المباركة، والذي شرفه الله بشرف الرباط وشرف الدفاع عن عقيدة الإسلام والمسلمين وحماية المقدسات وكل القيم الحضارية والإسلامية سيظل ثابتا بتوفيق الله تبارك وتعالى متمسكا بدينه وعقيدته وقيمه مهما تقلبت الظروف والأهوال، سيبقى شامخا في أراضي الإسلام و المسلمين رغم كل الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والنواحي التربوية والتعليمة، فالثبات الثبات أيها المؤمنون، كونوا قلبا واحدا صفا واحدا واصبروا وصابروا ورابطو واتقوا الله لعلكم تفلحون.
ونذكّر عالما الإسلامي الذي يعيش في عالم النسيان نذكر إن كان هناك ما يستمع لصرخات شعبنا نذكرهم بنصرتنا، فإن تعذر ذلك على الحكومات والأنظمة الرسمية فليكفوا عن التآمر علينا، فالمسلم أخو المسلم لا يظلم ولا يغدره ولا يحقره.
أيها المؤمنون، ما يدمي القلب أن فئات ضالّة من أبناء شعبنا تعمل بتوجيه من جهات مشبوهة على بث حالة الرعب والقيام بعمليات السرقة والنهب للبيوت والمحالّ التجارية، وقد نشطت هذه الفئات في ظل غياب القانون، وبفضل الله تبارك وتعالى ثم وعي شعبنا المسلم فقد تم إلقاء القبض على هؤلاء المأجورين، ومن هنا ندعو شعبنا المرابط إلى المزيد من أخذ الحذر والحيطة.
فيا أيها المسلم، أعدَّ لكل هول وشدّة "لا إله إلا الله"، ولكل هم وغم "ما شاء الله"، ولكل نعمة "الحمد الله"، ولكل رجاء "الشكر لله"، ولكل أعجوبة "سبحان الله"، ولكل ذنب "أستغفر الله"، ولكل ضيق "حسبي الله ونعم الوكيل"، ولكل مصيبة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ولكل قضاء وقدر "توكلت على الله"، ولكل طاعة ومعصية "لا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
عباد الله، قبل أن أفارق هذا المقام أتوجّه إلى الله أن يكون مع أبنائنا في امتحان الثانوية العامة، أسأل الله وأنا واقف بين يديه أن يكون الامتحان بردا وسلاما على قلوبهم...
|