عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، في الوقت الذي تتسابق فيه أمم العالم على ترويج ثقافاتها وأساليب حكمها لشعوبها، وتحاول تعميم تلك الثقافات وهذه الأساليب من الحكم على شعوب العالم ودوله، تقف الأمة الإسلامية على مفترق الطرق، لا بل على هامش ما يجري من أحداث في هذا العالم، مع أن كثيرًا من هذه الأحداث تستهدف المسلمين وديارهم وثقافتهم ودينهم، ولعله من فظائع الأشياء أن يحاول القوي فرض ثقافته وأسلوب حكمه على الضعيف والمغلوب، ولم يبقَ في الوقت متّسع وفي القوس منزع أن يظلّ المسلمون بعيدين عن مجال التأثير في هذه الأحداث، وهم يملكون ما يقوِّم أحوالهم، ويحصّن أخلاقهم، ويجمع شملهم، ويرسم سبيل العزة وطرق النهضة لأمتهم، ويقربهم إلى استئناف نظام الحكم الإسلامي، هذا النظام الشامل لكل مناحي الحياة، والذي يحدّد صلة الإنسان بخالقه والكون والإنسان، فبهذا النظام الرباني أقام المسلمون دولتهم على مبادئ الحق والعدل والتسامح واحترام كرامة الإنسان، دون النظر إلى دينه وعرقه وجنسه.
فكان المسلمون بهذا النظام مثالاً لهبة الخالق ورحمته للعالمين، منهاج خلفائهم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، ورسالة جندهم: "بعثنا الله لنخرج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام"، وبقيت أمتكم كذلك إلى أن نُحّي الإسلام عن سدّة الحكم وألغيت دولة الخلافة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد اكتوت أمتكم بعد زوال الحكم الإسلامي بنار الاستعمار وظلم الاحتلال الذي قسم العالم الإسلامي وفق مصالحه إلى دويلات وإقليميات، تتقاذفها النعرات العرقية والنزوات الطائفية، بعد أن عاث فسادًا في مناهج التعليم، وأقصى المخلصين من أبناء الأمة عن الصدارة، وحارب كل من دعا إلى مقاومته أو نبذ أشكاله، وخرج من البلاد مخلفًا عليها صنائعه لتدخل في مرحلة الاستقلال.
وفي هذه المرحلة ترعرعت شعارات القومية والتقدمية والاشتراكية والعمل المشترك، وظهرت الهيئات الإقليمية كالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد تراجعت كل تلك الشعارات وبان عوارها، وفقدت الأمة هيبتها، وأصبحت أوطانها إما محتلة، وإما برسم الاحتلال وفق إرادة الاستعمار.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وفي هذه المرحلة الدقيقة من حياة الأمة لا زالت الأمة عاجزة أو حائرة في اختيار الطريق الذي ينقذها من أوحال التخلف، ويرسلها إلى بر الأمان بعيدًا عن مشاريع الإصلاح القادمة مع عسكر الاستعمار الحديث، وكأنها قدر محتوم لا تملك الأمة وشعوبها وحكامها الفرار منه.
ولنا أن نتساءل: أما آن لأمتنا ـ التي أنهكها البحث عن التقدم بتجربتها لكل وافد من خارج ثقافتها وأرضها ـ أن تعيد النظر مجددًا في مقومات وجودها، وتأخذ بكتاب ربها الذي يدعوها للتي هي أقوم، ويبشرها بالفلاح في الدنيا، والفوز في الآخرة؟!
إن هذا الهدى لا يحده الزمان ولا المكان، فما صلح عليه الأوائل كفيل بإصلاح الأجيال في هذا الزمان، حيث العقيدة الحية التي تطلق الروح من أسفار الوهم، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء من أجل الأمة.
إن هذا الهدى يقود للتي هي أقوم علاقات الناس بعضهم ببعض أفرادًا وأزواجًا وحكومات وشعوبًا ودولاً وأجناسًا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الراسخة التي لا تتأثر بالهوى ولا تحكمها المصالح الآنية، إنها الأسس الإيمانية التي بينها القرآن وأقامها قيوم السماوات والأرض، هو العليم بخلقه فيما يصلح لهم في كل وقت وفي كل جيل، ويهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بكرامة الإنسان.
إن أمتنا التي تملك هذا الهدى لجديرة أن تبني كيانها وتصون عقيدتها وتحمي شعوبها وتفرض مكانها في هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء، يوم غابت عنه عدالة السماء وتقاذفته المصالح والأهواء.
ولله در القائل:
إني لأعلم أن ديـن محمـد لا يرتضي للمسلمين هوانا
إن الخلود لمن يموت مجاهـدا ليس الخلود لمن يعيش جبانا
جاء في الحديث الشريف عن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله : ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم))، أعوذ بالله أن نفتتن في ديننا أو أن نرد على أعقابنا. أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
|