.

اليوم م الموافق ‏17/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

سقط القناع وانشكف الغطاء

3576

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

الفتن, المسلمون في العالم

سعود بن إبراهيم الشريم

مكة المكرمة

21/1/1425

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سنة الابتلاء. 2- المنهزمون في معتركات الحياة. 3- موقف المسلم عند الفتن والمحن. 4- الدروس المستفادة من غارة الغرب على ديار الإسلام. 5- خطورة العدو الداخلي. 6- خزايا الأقلام المأجورة والقنوات الموزورة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فأصيكم ـ أيّها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي وصيّته للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء: 131].

أيّها المسلمون، إنّ هذه الحياةَ بقضِّها وقضيضِها ذاتُ متاعب جمَّة وشدائدَ ملمَّة، من عاش فيها فلن يخلوَ من مصيبةٍ تغشاه أو ينفكّ عن عجيبة تحيط به. والإنسان في معترَك هذه الحياة يجاهد فيها ليسعَد، ويتكفَّأ النوازل بكلّ ما أوتي من سبيلٍ ليحيا حياةً تليق بعمارته في الأرض، وكلُّ الناس في ذلك يغدو؛ فبائعٌ نفسَه فمعتِقها أو موبقُها، يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـٰقِيهِ [الانشقاق:6].

وليس هناك وصفٌ لهذه الدنيا أحسن من وصفِ النبي فيما صحَّ عنه أنه قال: ((الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالمًا أو متعلِّمًا))[1].

وإذا كانت المدافعةُ في هذه الحياة تعَدُّ ضربًا من جِبلَّة الإنسان فإنَّ فئامًا من الناس يضعُفون أمام معتركات الحياة، وتنهدُّ قواهم حينما تغشَاهم غِيَر الزمن وصروفُه المتقلِّبة على كافّة مستويات الحياة بلا استثناء، فتراهم وكأنهم يُصعِدون ولا يلوون على أحد، والناصِحون المشفِقون يدعونهم في أُخراهم، لكنّهم آثروا أن يكونوا أُسَراء أوهام وأحلاسَ مخاوف وأقماع يأس واستكانةٍ واستجداء بالأجنبيّ عنهم، فلا تجد لمعاني الأملِ بَصيصًا في حياتهم، ولا ترى لوبيصِ الفأل الحسَن والسعي في الإصلاح للأفضل أثرًا في مفارِقهم، بل غايةُ ما عندهم الهلع لأقلِّ بادرة والتنازلُ لأوّل واردة والجزع عند الهمس والفَرَق عند اللمز، إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ ٱلْمُصَلّينَ [المعارج: 12ـ 22].

إنَّ هؤلاء إنسٌ من بني الإنسان، غيرَ أنّ غائلةَ اليأس والقنوط والتخاذُل جعلت منهم حالاً أفقَدتهم الاعتزازَ الجادَّ بهوِيَّتهم وبخصائص القوّة والصبر والمصابَرة في الطبيعة البشريّة، فصارت حالهم تردُّدًا في العمل، واستحياءً في الانتماء، ووسوسةً في النتائج ولو كانت سارّة، حتى ضعُفت الهمَم وتقاصرت العزائمُ، فتسابق الآبقون إلى مناكبِ الحياة، وتخلّفَ معظمُنا وسطَ مهامِه المحَن ودروبها، ما كان سببًا أكيدًا في جعل البِحار تستقي من الركايا، ووصولِ الأصاغر إلى مرادهم حينما جلَس الأكابرُ في الزوايا.

عبادَ الله، إنَّ تداعياتِ الأحداث النازلة وممارسات الإكراه على ديارِ المسلمين مِن قِبَل أعدائهم ليست وليدةَ اليوم، إذ الابتلاءُ سنّة ماضية، بل الابتلاء ليس قاصرًا في الشرّ وحدَه إذ يقول تعالى: وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

وليست المصيبةُ في الابتلاء لكونه سنّةً ربانية ماضية، وإنما المصيبة في كيفية التعاملِ السلبيّ معه، إذِ المفترض أن يكونَ موقفُ المؤمنين منه واضحًا جليًّا من خلال الإيمان بأنّه من عند الله، ثمّ الإدراك بأنه وإن كان ظاهره الشرّ إلا أنّه قد ينطوي على خيراتٍ كثيرة لمن وفّقه الله لاستلهام ذلك. ولا أدلَّ على مثل هذا من حادثةِ الإفك الشهيرة التي رُمي فيها عِرض سيِّد ولد آدم بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور:11].

فالسعيدُ مِن الناس من اقتبسَ الأملَ وسطَ هذه الزوابع، والكيِّس الفطِن هو مَن استخرج لطائفَ المنَح وسطَ لفائفِ المحَن.

فالغارَةُ الكاسِحة على ديار المسلمين قد أبرَزت لنا دروسًا ليست بالقليلة، كان من أهمِّها أنّ المسلمين مهما بلَغوا مِن المقام والرِّفعة وهدوء البال واستقرار الحال فإنهم معرَّضون لأيّ لون من ألوان الابتلاء، فعليهم أن لا يستكينوا إلى درجتِه ويطمئنّوا إلى مكانته، وأن لا يحكمَهم اليأس والقنوطُ في إبّانه، كما أنَّ توطينَ النفس على السرّاء دومًا سببٌ ولا شكّ في التهالُك عند القوارعِ التي تنزل بالمسلمين أو تحلّ قريبًا من دارهم، فيقع الانحراف ويضيع الأمَل بالله، وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرٰنُ ٱلْمُبِينُ [الحج: 11]. فالفتنُ ـ عباد الله ـ هي التي تصدِّق دعوى الإيمان أو تكذِّبها، ولقد صدق الله إذ يقول: وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ [العنكبوت: 10].

ثمَّتَ درسٌ مهمّ يبرز جليًّا إثرَ تلك التداعياتِ، ألا هو انكشافُ المندسِّين في الصفّ المسلم ممن هُم من بني جلدةِ المسلمين ويتكلّمون بلغتهم، الذين يُعرَفون بسيماهم، ويُعرفون في لحنِ القول، والله يعلم إسرارَهم، وهم في حقيقتهم أشياعٌ للعدوِّ الكاسح ولُدَّات، لا تبرز سرائرُهم إلاّ في الفتن والحروب، مما يستدعِي تنبيهَ المسلمين إلى أمرٍ هو من الأهمّيّة بمكان، إذ يتمثَّل في الاقتناع المبنيّ على الاستدلال الصريحِ بأنَّ الغارَة على ديار المسلمين لا يلزَم أن تنطلقَ من ميدانٍ خارجيّ فحسب، فيغضّ الطرف عن الميدان الداخليّ، إذ قد يؤتَى الحذر من مأمنه. ولا جرمَ عباد الله، فالذين جاؤوا بالإفكِ في عِرض النبيّ إنما كانوا من داخل الصفّ، وليسوا من خارجه. ومِن هنا يأتي تمحيص الصفِّ الإسلاميّ في الفتن كما ذكر سبحانه ذلك في غزوة أحد إذ يقول: وَمَا أَصَـٰبَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـٰكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ يَقُولُونَ بِأَفْوٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران: 166، 167].

ومن هنا ـ عباد الله ـ لا يبعِد النجعةَ من يرى أنَّ خطورةَ الإفساد من داخل المسلمين أشدُّ من الإفساد الخارجيّ، وأنَّ ظلمَ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقع الحُسام المهنَّد.

ومَن قرأ كتابّ الله جلّ وعلا بفهمٍ وتدبّر علم الحكمةَ من ورود ذكر المنافقين في القرآن في أكثرَ من خمسة وثلاثين موضعًا، والذين حذَّر النبيّ من أمثالهم في آخرِ الزمان حينما سأله حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قائلاً: يا رسولَ الله، إنّا كنّا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: ((نعم))، فقلت: هل بعد ذلك الشرّ مِن خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخَن))، قلت: وما دخَنه؟ قال: ((قومٌ يستنّون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرِف منهم وتنكر))، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((نعم، قومٌ من بني جِلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا)) الحديث رواه مسلم[2]، وفي لفظ له: ((وسيقوم فيهم رِجال قلوبُهم قلوبُ الشياطين في جثمان إنس))[3].

هذه هي أوصافهم عباد الله، ولقد صدق الله إذ يقول فيهم: وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِى هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ [القصص:41، 42].

وبعد: عبادَ الله، فإنّ ثمَّتَ درسًا مهمًّا يُستَقى وسطَ أعاصير الفتن، وذلك أنَّ استسلامَ بعض المسلمين لتبِعات الأحداث والانخراط في سِلك المتخاذلين أمامَها بين مُقلٍّ في ذلك أو مكثِر هو خطبٌ جَلل، إذ يخطئ أمثالُ هؤلاء حينما يرَون الشرَّ يداهِم بلاد المسلمين فينزلِقون إليه ويغرقون فيه، ظانّين أنّ بقاءهم وحدَهم لا معنى له وسطَ هذا الزّحام المتهافِت، كيف لا وقد وقعَ الجمهور فيه وولغوا من حَمَئه؟! وهم يحسبون أنَّ انتشاره في الناس كافٍ لتغيير حُكمه ورفع التبِعة عن مشتملِة، ويحسبون أيضًا أنَّ الوقوف أمامه بالنُّصح والتوجيه ما هو إلا ضربٌ من ضروب الوقوف أمام سيلِ العرم.

والحقُّ ـ عبادَ الله ـ خلافُ ذلك؛ إذِ المؤمنُ الحرّ هو مَن خرَق عاداتِ الناس، منتهِجًا نهجَ الصواب ولو كان في مجافاةِ الكثرة الكاثرة. فالحقُّ والباطل لا يُعرَف بكثرةِ السالكين فيه، إذ يقول سبحانه: وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، ويقول أيضًا: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ [الأنعام:116]. ولهذا بيّن سبحانه وتعالى أثرَ الاندفاع وراءَ الدَّهماء في الفتن والسَّير مع الغوغاء، وأنَّ ذلك لا يُعفي أحدًا من مسؤوليته، فقال سبحانه عن حادِث الإفك: لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإثْمِ وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 11].

ألا فاتّقوا الله أيّها المسلمون، ولتقبِلوا على الحياة وسطَ هذه الزوابعِ باعتزازٍ بالدّين وعزيمة وثَّابة وإرادة لا تلين، ولنتعوَّد النظرَ إلى الجانب المضيء في طريقنا، ولنفسِّر الأشياءَ تفسيرًا جميلاً يبعَث فينا الأمَل وينشر الرجاء بالله، ولنثِق ولنثِق ولنثِق بأنّ يدَ الله فوقَ أيدي المؤمنين مهما ادلهمَّت الأحداث وتكاثرتِ الخطوب، فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.




[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2322)، وابن ماجه في الزهد (4112) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2797).

[2] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1847)، وأخرجه أيضا البخاري في الفتن (7084).

[3] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1847).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.

وبعد: فإنّه عطفًا على ما سبق ذكرُه قد ينشأ سؤالٌ في خَلَد البعضِ يحمِله على الاستفهامات التالية: هل مِن المعقول حقًّا أن يوجدَ في صفوف المسلمين من يقوِّض مسيرتهم أو يخدش بناءهم؟! أمِن المعقول أن يكونَ بين المسلمين من يجعَل من نفسِه تطوُّعًا معوَلَ هدمٍ لا يقلّ ضراوةً عن معاول أعداء الإسلام؟! أمِن الممكنِ حقًّا أن نصلَ إلى حالٍ نعاني فيها من بني جلدتِنا ما يفوق معاناتنا من أعدائنا؟!

فالجواب أن نعم، وليس هذا بمستغرب، كيف لا وقد حدَّث عنه النبيّ وهو الصادق المصدوق كما في حديث حذيفة الآنف ذكره. ولو لم يكن الأمرُ كذلك لما توعَّد سبحانه من يقَع في أتّون الإغواء والإضلال بين المسلمين بقوله: إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور: 19].

فلا غروَ إذًا ـ عباد الله ـ أن تكونَ هناك أقلامٌ كالمأجورةِ جعلت مِن بَنان ممسكِيها أُجَراء لفكرٍ منقوص أو متطوِّعين لتعويق مسيرةِ الإسلام الخالدة، بَثّوا نُطفَ أفكارهم لإيلادِ أطفالِ دهاليز منفلّين لكلّ لاقط، يشكِّكون من خلالها في ثوابتِ الدين تارة، ويهمِزونها ويلمزونها تاراتٍ أخرى، يشوِّشون في ثوابتِ ديننا ومقوّماته بأحبارٍ أجنبيّة عنّا، شُغْل بعضهم الشاغِل الإزراءُ بموقف الشريعةِ تجاهَ المرأة، فسخِروا من الحجاب المفضي إلى العفاف، وأظهَروا الشماتة بقوامَة الرجل، ونسبوا أسبابَ تراجُع المسلمين وضعفِهم أمام أعدائهم إلى خلّل في مناهجهم الدينيّة، زاعمين أنّ الإصلاح لا يكون إلاّ في خلخلتِها وتهميشِها.

كما أنّ هناك قنواتٍ مرئيّةً جنَّدت نفسها من حيث تشعُر هي أو لا تشعر، وكِلا الأمرين معصيبة، نَعَم جنّدت نفسها في بثِّ ما مِن شأنه محوُ العفاف ولثمُ الحشمة ونشر الإثم عاريًا دونما استحياء أو مسؤولية، فجعلت في إذكاء التمازُج بين الفتاة والفتى في منتدياتٍ دولية خالية من القيود والحدود الشرعيّة، ليجعلوه نوعًا من أنواع السباق المحموم والشجاعة الساخرةِ بمقوّمات الحياة والشهامة والكرامة الإسلاميّة والعربية. تركوا أيتامَ فلسطين والعراق والشيشان وغيرها لا بواكيَ لهم، وهمَّشوا ثكالى المسلمين وأراملَهم، فلم يجدوا حلاًّ يواسون به جراحَهم إلا من خلال نشرِ الإثم والقِحَة والمروق من الفضيلة.

وإن تعجبوا ـ عبادّ الله ـ فعجبٌ ما تلاقيه تلك البرامج من رجعِ الصدى لدى الأغرارِ واللهازم من بني ملّتنا، في حين إنّك لا تجد من أهل العلم والإصلاح وهيئاتِ التربية والتوجيه ومنظّمات حقوق الإنسان ما يكشِف هذا الزيفَ المرئيَّ ويزيل اللثام عن أنيابه ويبيّن أضرارَه ومخاطره على الأجيال الحاضرة والأجيال الصاعدة، وممّا لا شكَّ فيه أنه بمثل هذا تسفُل النفس، ويعمّ الخلَل أوساطَ المسلمين، وتنتشر الحطَّة والدون، ويعظم الركون إلى الأهواء والأدواء.

ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، والحذرَ الحذرَ أن نؤتَى مِن قبل أنفسنا ونحن لا نشعر، أو أن نستوردَ البلايا وسطَ ديارنا بحُرّ أموالنا ومحضِ أفكارنا، فإنّ الحلال بيّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات. ألا فإنَّ الحقَّ أبلج والباطل لجلج، وإنّ شرّ الدوابّ عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون. فشريعة الله كالبيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 181].

هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله في ذلك بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً