.

اليوم م الموافق ‏18/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

قصة موسى ويوم عاشوراء

3497

سيرة وتاريخ

القصص

ناصر بن محمد الأحمد

الخبر

5/1/1422

النور

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- بنو إسرائيل في مصر. 2- فرعون يظلم بني إسرائيل ويقتل أبناءهم. 3- ولادة موسى ونجاته من كيد فرعون بقدرة الله الغالبة. 4- موسى يقتل المصري ويهرب إلى مدين. 5- نبوة موسى في طريق مدين. 6- موسى يدعو فرعون إلى التوحيد. 7- جدال موسى مع فرعون. 8- إيمان السحرة بموسى ودينه. 9- خروج بني إسرائيل في مصر وهلاك فرعون. 10- دروس من القصة.

الخطبة الأولى

أما بعد: دخل يعقوب عليه السلام أرض مصر مع بنيه بطلب من ولده يوسف عليه السلام حين ولي وزارة مصر، وكانوا أفراداً معدودين، فآواهم يوسف عليه السلام وقال لهم: ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء ٱللَّهُ ءامِنِينَ [يوسف:99]، ولمكانة يوسف عند الملك أكرم الملك أبويه وإخوانه وأهله، وأحسن مثواهم ومكّن له في الأرض، حتى ولاّهم مناصب عالية فيها. ومضت السنون، وكثر بنو إسرائيل في مصر وزاد عددهم، وبدأ الفراعنة يحسدونهم على ما وصلوا إليه في البلاد من مناصب مع غربتهم، وبدؤوا يقلقون بسبب وجود بني إسرائيل في مصر، فأخذوا يعزلونهم عن المناصب والولايات.

وحدث أن رأى فرعون رؤيا، فُُسرت له بأن هلاكه وذهاب ملكه، سيكون على يد غلام يولد من بني إسرائيل، فاستشاط غضباً، وأصدر أوامره بذبح كل مولودٍ ذكر من بني إسرائيل، وأخذ يستخدم كبار رجالهم ونسائهم في الأعمال الشاقة، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ [القصص:4].

ولكن الله تعالى يريد غير ما يريد فرعون، ويقدّر غير ما يقدر الطاغية، والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم فينسون إرادة الله تعالى وتقديره، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاؤون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون. والله يعلن إرادته، ويكشف عن تقديره، ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلاً: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ٱلأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5، 6].

ويولد موسى عليه السلام في هذه الظروف، والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، وتحتار أمه، وترجف خشية أن تتناول عنقه سكين جنود فرعون، ويوحي إليها ربها: أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِى ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ [طه:39]، وهذا منتهى التحدي. لقد أُعلنت الطوارئ، وصدرت الأوامر بذبح المواليد، تخوّفاً من واحد سيكون هلاك فرعون على يده، وإذا بالقدرة الإلهية تحمل هذا الغلام نفسه إلى فرعون، مجرداً من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزاً عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد، وكأنها تقول له:

يا فرعون! لا تتعب نفسك في البحث عن هذا الغلام الذي سيكون ذهاب ملكك على يده، فها هو بين يديك، فإن كان لك كيد أو تدبير فاصنع ما تريد. وإذا بفرعون نفسه يبحث لموسى عن المراضع، ويأتيه بهن واحدة بعد الأخرى حتى آل إلى أمه كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:13].

ويتربى موسى في قصر فرعون تحت رعايته وإشرافه، وفرعون يوفر له كل احتياجاته لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـٰطِئِينَ [القصص:8]، وتنتهي مدة الرضاع وفترة الصِّبا، ويبلغ موسى أشده، ويستوي عوده، ويكتمل نضجه العضوي والعقلي.

وفي يوم، وبينما موسى يتجول في المدينة، في وقت الظهيرة حين تغفو العيون فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ [القصص:15]، فأجمعوا أمرهم ليقتلوه، فنصحه ناصح بالخروج من البلاد فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، حتى دخل مدين وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ  قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَـجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلامِينُ قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـٰلِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:23-28].

وقضى موسى أبر الأجلين وأوفاهما، ثم استأذن صهره في الرجوع إلى مصر! مصر التي قَتل فيها رجلاً بالأمس! مصر التي خرج منها خائفاً يترقب! ترى هل نسي ما كان منه؟ هل نسي أن لهم عنده ثأراً؟ إنها إرادة الله! إنه القدر الذي ذكّر الله عز وجل به موسى حين قال سبحانه له: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ [طه:40]، وفي الطريق اشتد البرد، وفقد النار، وضل الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ ٱمْكُثُواْ إِنّى ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى [طه:10]، فأتى موسى هذه النار فإذا هي نور عظيم، وعندها خير كثير: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يٰمُوسَىٰ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى [طه:11-14].

وبهذا نُبئ موسى عليه السلام، وأرسل حين قال له ربه: ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ [طه:24]، وموسى يعرف من هو فرعون فسأل الله العون: قَالَ رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى  وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَٱجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى  هَـٰرُونَ أَخِى [طه:25-30]، فقال الله له: ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـئَايَـٰتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى ٱذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ [طه:42-44]، فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.

وإذا كان موسى هو النبي المعصوم المؤيد بقوى السماء مأموراً بالقول اللين، فما بال غير المعصومين وغير المؤيدين يغلظون القول، ويقسون على المدعوين، أهم خير أم موسى؟ وهل من يدعونهم شر من فرعون؟ فرفقاً بالناس معاشر الدعاة ! فـ ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))، رواه مسلم و((من يحرم الرفق يحرم الخير)) رواه مسلم، أما قرأتم وسمعتم قول الله تعالى لنبينا محمد : فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

ويأخذ موسى أخاه هارون ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأ موسى الكلام فيقول لفرعون: إِنَّا رَسُولُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [الشعراء:16]، هكذا من أول لحظة، ليُشعِر فرعون أنه ليس رباً ولا إلهاً، وأنه مربوب لرب العالمين الذي يجب أن يتخذه إلها يعبده. ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: إِنَّا رَسُولُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ [الشعراء:17]، فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته، وأنه هرب بعد قتله للقِبْطِي.

فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى، إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين، ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً: أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [الشعراء:18، 19]، فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا؟ بأن تأتي اليوم لتخالف ديننا ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! ولقد قتلت نفساً بالأمس وأنت من الكافرين برب العالمين الذي تقول به اليوم؟! فما الذي حدث؟!

ويرد موسى عليه السلام في ثبات وثقة وطلاقة لسان: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ  فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرٰءيلَ [الشعراء:20-22].

وعندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه، ولكن في تجاهل وسوء أدب في حق الله. قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلاْوَّلِينَ  قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ [الشعراء:23-30].

فسُقط في يد فرعون، ورأى أنه لابد أن يستمع لبرهانه، فطلب منه أن يأتي بالدليل: قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ  فَأَلْقَىٰ عَصَـٰهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـٰظِرِينَ [الشعراء:31-33].

وأحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها، فأسرع يقاومها ويدفعها وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق الملأ من حوله، ويهيج مخاوفهم من موسى وقوله، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة: قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الشعراء:34، 35].

فأشاروا عليه أن يأخذ من موسى موعداً يجتمع فيه السحرة من كل مكان، ويقابلون سحر موسى بسحرهم، فمن غلب اتبعوه، والأمر مفصول فيه أن السحرة هم الغالبون.

فخيب الله تعالى سعيهم، وأبطل كيدهم، وجعل نبيه موسى هو الأعلى: فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ رَبّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ [الشعراء:46-48].

فجن جنون فرعون وأخذ يهدد ويتوعد، ولكن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب لم يعبأ بأي تهديد، ولذا قال المؤمنون كلمتهم بكل جرأة وثبات: قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ [الشعراء:50]، لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لا ضير في التصليب والتعذيب، لا ضير في الموت والاستشهاد، لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، وليكن في هذه الأرض ما يكون، فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه، أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين.

وهنا تدخل الملأ، أهل الأهواء والمصالح والمطامع، تدخلـوا ليهيجوا فـرعون على موسى ومن معه، ويخوفونـه عاقبة التهاون في أمرهـم، فطمأنهم فـرعون بأنه سيـحكم القبضة، ويعيد العمل بقانون الطوارئ، فيقتل الذكران ويستحيي النساء.

وأخذ موسى عليه السلام يعظ قومه وينصحهم بالصبر حتى يأتي أمر الله، فـ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]، ومضى فرعون وملؤه في جبروتهم، ومضى موسى وقومه يتحملون العذاب ويرجون فرج الله، وعندئذ تدخلت القدرة الإلهية، فأخذت آل فرعون بالسنين، ونقص من الثمرات، لعلهم يذكرون، ثم جاءت الإنذارات تترى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءايَـٰتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ثم أعلنوها صريحة: وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، وأدرك موسى أن لا فائدة ترجى من القوم، وأنهم مصرون على الكفر والفساد في الأرض فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ [الدخان:22].

فأوحى الله إليه أن فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ [الدخان:23]، فإذا عبرت أنت ومن معك فاترك البحر رهواً، أي ساكنا كما هو، إغراء لفرعون بالعبور، فإنهم قوم مغرقون.

وفي الليلة الموعودة خرج موسى ببني إسرائيل، وعلم فرعون بخروجهم فجمع الجموع وخرج في طلبهم فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ   قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ [الشعراء:60-63]، أي كالجبل العظيم، وصار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق، وأمر الله الريح فنشفت أرضه، وهذا هو قوله تعالى: فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ٱلْبَحْرِ يَبَساً [طه:88]، وتخرّق الماء بين الطريق كهيئة النوافذ ليرى كل قوم غيرهم فيطمئنوا عليهم.

وجاوز بنو إسرائيل، فلما خرج آخرهم كان فرعون قد انتهى إلى شاطئ البحر، فوقف متردداً أيعبر خلفهم؟ أم يرجع وقد كُفيهم؟

فجاء جبريل عليه السلام على فرس فمرَّ إلى جانب حصان فرعون، فحمحم إليها، واقتحم جبريل، فاقتحم فرعون وراءه، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحداً إلا أقحمه.

حتى إذا ادّاركوا في البحر جميعاً، جاءهم الموج من كل مكان، وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى: لا إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرٰءيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقيل له: ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ  فَٱلْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ ءايَـٰتِنَا لَغَـٰفِلُونَ [يونس:91، 92].

 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَال البحر فأدسّه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة)).

وهكذا نجّى الله موسى والمسلمين، وأغرق فرعون والكافرين: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ [الأعراف:137]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ  وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ [الشعراء:8، 9].

بارك الله لي ولكم ..


 

الخطبة الثانية

أما بعد: ولنا مع قصة موسى عليه السلام وفرعون مصر عدد من الدروس والوقفات المهمة:

1- أن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثّروا في عقول الدهماء فترة من الزمن، واستمالوهم بالمنح والعطايا، فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء،  وتأملوا في حال فرعون وسَحَرتِه، وكم وُعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديان.

 وهكذا كانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة: وَجَاء ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَـٰلِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَـٰغِرِينَ وَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ رَبّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ [الأعراف:113-122]، إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية، هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين.

وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم،  وانتصار الإنسان على الشيطان.

وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها، ولم تفتنها الدنيا ومباهجها.  وضرب الله بها مثلا للمؤمنين وقالت: رَبّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ [التحريم:11]، ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـٰنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ مِن رَّبّكُمْ [غافر:28].

2- قد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفا عصيبة، ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم، ويتخذوا المساجد في بيوتهم، قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، قال ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم.

وفى ظل هذه الظروف العصيبة أمر المسلمون بالصبر عليها، والاستعانة بالله على تجاوزها، بالوسائل التالية:

منها: الصبر والصلاة، قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ [الأعراف:128]، وقال لهم ولغـيرهم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:153].

فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء، وحين الشدة والضراء.

ومنها: الإيمان بالله والتوكل عليه، ضروري للمسلم في كل حال، وهما في حال الشدة عدة وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84].

ومنها: الدعاء وصدق اللجوء إلى الله يصنع سبحانه أملاً من الضيق، وفيه فرج من الكروب، وخلاص من فتنة الظالمين، ونجاة من الكافرين. فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ [يونس:85، 86]، وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ [يونس:88].

ومع ذلك فلا بد من الاستقامة على الخير، وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [يونس:89].

3- أن الصراع مهما امتد أجله، والفتنة مهما استحكمت حلقاتها، فإن العاقبة للمتقين. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة: قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، أجل فلا ينبغى أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله،  ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين بإذن الله.

أيها المسلمون، ويحس المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى عليه السلام المحنة كذلك ينبغي أن يتجاوزها المسلمون في كل عصر ومِلَّة.

وكذلك كما صام موسى يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شكراً لله على النصر للمؤمنين، صامه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصَوْن بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، ويرجون بره وفضله.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى اللهُ بني إسرائيل، من عدوهم فصامه موسى، قال: ((فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه)) رواه البخاري.

وفي رواية مسلم قال: ((هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله تعالى فنحن نصومه)).

وقد قال عليه السلام بشأنه: ((يكفر السنة الماضية)) رواه مسلم وفي لفظ: ((وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)). فاقدروا لهذا اليوم قدره، وسارعوا فيه إلى الطاعة واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا تطوعاً لله يوماً قبله أو يوماً بعده، فذلك أكمل.

أيها المسلمون، وإذا صمنا يوم عاشوراء ـ وكلنا سيصوم إن شاء الله تعالى ـ فينبغي أن نعلم أن الخطايا التي تُكَفَّر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات، ويتركون الفرائض، وينتهكون المحرمات، ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم، وأن صومه يكفر ذنوب سنة، وينسَوْن أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتكفير الطّهارة، والصّلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصّغائر فقط.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً