ثم أما بعد: فإن الذي يتأمل أحوال المسلمين ـ معاشر المؤمنين ـ ويرى ما بهم من ذلة وهوان على الناس في هذه الأيام ليعجب كيف يسلّط الله عز وجل الكافرين وعُبَّاد الصليب على أهل لا إله إلا الله وعلى أهل التوحيد.
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن هذا الأمر وهذا الواقع الذي يعيشه المسلمون في كل مكان إنما هو سنة كونية وعقاب رباني بيّنه لنا نبينا صلوات ربي وسلامه عليه، وذكر أسبابًا ثلاثة إذا وقعت فيها الأمة فإنه يصيبها من الذل والهوان ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
والذي يرى أحوال الأمة في هذه الأيام ـ معاشر المؤمنين ـ وما بها من ذل ويتأمل حديث النبي يزداد إيمانه بالله، ويزداد إيمانه بأن المصطفى مَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ [النجم:3، 4]، ويزداد إيمانه أن لا سبيل إلى العودة إلى عز الأمة ومجدها إلا بالتمسك بالنصيحة التي بينها النبي بعد أن ذكر الأسباب التي تسلط على هذه الأمة ذلاً لا ينزعه إلا الله عز وجل.
يقول في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينتزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم)).
فبين النبي ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أسبابا ثلاثة إذا وقعت فيها الأمة سلط الله عليها ذلاً لا ينتزع أبدًا حتى ترجع الأمة إلى دينها.
أما الأمر الأول والسبب الأول: ((إذا تبايعتم بالعينة)) وهو بيان بأن الأمة إذا وقعت في البيوع المحرمة ولم تراع الحلال والحرام فإن هذا أول أسباب الذل والهوان من الله عز وجل.
((إذا تبايعتم بالعينة)) فما معنى العينة معاشر المؤمنين؟ هي بيع من البيوع المحرمة، وصورتها أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجّل ثم يبيعها على نفس البائع بثمن حاضر، فهذا نوع حرَّمه النبي ، وهو منتشر في هذه الأيام في كل مكان وفي كل بقعة على وجه الأرض، ومثال ذلك ما يحصل في معارض السيارات مثلاً، يشتري الرجل سيارة بثمن مؤجل، يشتريها بالتقسيط، ثم يبيع السيارة على نفس هذا البائع بثمن نقد يستلمه حالاً، هذه هي العينة وهي أشد من الربا إذا وقعت وانتشرت بين المسلمين، وهذا هو الحال.
وليس الأمر ـ معاشر المؤمنين ـ بيانا بأن هذا هو السبب الوحيد، بل هو دليل ومؤشر على أن الناس يقعون في البيوع المحرمة، وهذا من أعظمها ومن أشدها لِما فيه من التحايل والتلاعب، وكأن الذي يقع فيه لا يستحضر أن الله هو السميع العليم، وأنه يعلم السر وأخفى جل وعلا، وما أكثر البيوع المحرمة التي تنتشر في مجتمعات المسلمين، وما أكثر بيوع الغرر التي يقع فيها المسلمون في هذه الأيام، بل لقد أصبح التأمين على الحياة وعلى الممتلكات أصبح لازما على المسلمين في كثير من الأقطار، لا يسعهم إلاَّ أن يقعوا في هذا النوع المحرم من العقود بقوة السلطان وقوة النظام.
((إذا تبايعتم بالعينة)) فما أكثر وقوع الأمة في أنواع البيوع المحرمة كما رأيتم معاشر المؤمنين.
((وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع))، وهذه كناية عن الركون إلى آلات الحرث ووسائلها، والرضا بالدنيا ووسائل التجارة، وما يعود منها على العبد من ربح ورزق، فيركن إلى ذلك العبدُ ويرضى به، وليس في هذا ذم للكسب والعمل، بل هو ذم للركون المطلق إلى الدنيا وزينتها وإلى الحرث وزينته، هو ذم لمن يرضى بهذا عن غيره من الأعمال الصالحة، كالجهاد في سبيل الله مثلاً، كما سيأتي معنا.
والذي يتأمَّل أحوال أمتنا معاشر المؤمنين، لا أقول الذي يتأمل أحوال عامتهم، بل الذي يتأمل أحوال علمائهم وطلاب العلم منهم، يرى أنهم من التجار، ومن المتسابقين على الاستثمار ومزاحمة أهل الدنيا في دنياهم، فإذا كان هذا حال أهل الفضل من هذه الأمة، أخذٌ بأذناب البقر ورضًا بالزرع والحرث، فما بالكم بمن هم دونهم من سائر الناس؟!
((وتركتم الجهاد))، هذا هو السبب الثالث معاشر المؤمنين، الجهاد ذروة سنام الإسلام، بل عده بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام.
الجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ ليس عملاً كغيره من الأعمال الصالحة يثاب العبد على فعله ولا يعاقب على تركه، الجهاد واجبٌ أوجبه الله على هذه الأمة، يقول جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ [البقرة:216]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي: فرض عليكم، كما قال جل وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وهنا قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ، فلم يكتبه على الذين من قبلنا، وإنما كتبه الله عز وجل على هذه الأمة، وكان من سنة الله أنه يهلك الأمم التي تكذّب بالأنبياء والمرسلين، ويرسل عليها عذابًا يستأصلها ويذهب بها، ولكنه جل وعلا لم يجعل ذلك في أمة المصطفى بل أمرها بالجهاد وقال: قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14]، فعذاب الكفار ـ معاشر المؤمنين ـ والمنافقين والصليبيين لا يكون إلا على أيدي الخلَّص من المؤمنين.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ، تكرهونه لما فيه من المشقة، ولما فيه من الكلفة، ولما فيه من الألم والتضحية، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، والله عز وجل يعلم ما يصلح دينكم وأخراكم، ويعلم الخير لكم في الدنيا والآخرة، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.
فالجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ فريضة على هذه الأمة، ينبغي أن يعلم ذلك ويؤمن به كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا)) وفي رواية: ((حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله))، ويقول جل وعلا: وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ [الأنفال:39]، فأمر الله عز وجل بقتال أهل الأرض حتى لا تكون فتنة، والمراد بالفتنة هنا الشرك والكفر، أي: قاتلوهم حتى لا يبقى كفر ولا شرك على وجه الأرض، ويكون الدين أي: كل الدين لله عز وجل على ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين.
هذه الأمور معاشر المؤمنين، وفي مقدمتها ترك الجهاد من أعظم أسباب الذل والهوان، والأمة ـ أيها المؤمنون ـ لم تترك الجهادَ فحسب، وإنما زادت على ذلك أمرًا لم يكن يخطر على بال مسلم، فضلاً عن مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، زادت الأمة على ترك الجهاد حربًا له ولأهله، واستهزاءً به وبأهله، فالمجاهدون اليوم يوصَفون بأشدّ العبارات استهزاءً وسخرية وانتقاصًا وتضليلاً لدورهم وواجبهم الذي يقومون به ويرفعون به الإثم عن كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، المجاهدون الأبطال ـ معاشر المؤمنين ـ أصبحوا اليوم إرهابيين حتى في الإعلام الإسلامي، بل وحتى على ألسنة بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة، جعلوا المجاهدين الذين نذروا أنفسهم وأرواحهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل، جعلوهم مشوِّهين لصورة هذا الدين بزعمهم، ومتى كان هذا الدين حسنًا في أعين الكافرين حتى شَوَّهه هؤلاء المجاهدون الأبطال؟! متى كان الكفرة والصليبيون ينظرون إلى ديننا نظرةً حسنة حتى جاء هؤلاء فشوَّهوا تلك الصورة الحسنة كما يزعمون؟!
المجاهدُ ـ معاشر المؤمنين ـ يحلِّلون اندفاعاته في هذه الأيام فيقولون: إنها نتيجة عن الإحباط الذي يعيشه، نتيجة عن الضغوط النفسية التي يعيشها هؤلاء الشباب، فقرروا أن يتخلصوا من أرواحهم، ويذهبوا إلى الجهاد، وما علم أولئك أنهم يقولون كفرًا، فالمجاهد إنما يرجو ما عند الله عز وجل، وللمجاهدين في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة كما بين السماء والأرض كما أخبر النبي ، الذي يقاتل ابتغاء مرضاة الله، الذي يقاتل ابتغاء الفردوس الأعلى، يسمَّى مُحبَطًا، ويسمَّى مريضًا نفسيًا، يندفع تحت ضغوط نفسية، ومع علم هؤلاء المرضى أنه ما من أحد يرى النعيم المقيم يوم القيامة إلا ورضي بما قسمه الله له، وأحب أن يبقى خالدًا فيها مخلدًا إلا المجاهد الذي استشهد في سبيل الله، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقاتل فيقتل في سبيل الله، ثم يعودُ إلى الجنة لما يرى من النعيم والمنزلة والمكانة التي أعدها الله عز وجل للمجاهدين، والتي أعدها الله عز وجل لمن باعوا أنفسهم رخيصة لإعلاء كلمة الله.
يقول النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|