.

اليوم م الموافق ‏16/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

أسرار الحج

3540

فقه

الحج والعمرة

عبد المحسن بن محمد القاسم

المدينة المنورة

8/12/1424

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الشوق إلى بلد الله الحرام. 2- فضل الحج. 3- منافع الحج وعِبَره. 4- فضل يوم عرفة والدعاء فيه. 5- الذكر في الحج. 6- الناجح في مدرسة الحج.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعمَ الزاد، وهي النجاة يوم المعاد.

أيّها المسلمون، تتوالى مواسمُ الخيرات محفوفةً بفضلِ الزّمان وشرَف المكان، أفئدةُ المسلمين تهفو لبيتٍ معمور، يتّجهون إليه كلَّ يوم في صلاتهم، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ [البقرة:144]. وأنظارُهم تتطلّع لبقاعٍ مباركةٍ تتجدّد فيها العِبر والعظات، قال سبحانه: فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ [آل عمران:97].

الأمنُ والأمان في ربوعِه بأمانٍ من الله، قال جلّ وعلا: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا [آل عمران:97]. نفعُه متعدٍّ للحاضر والباد، لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ [الحج:28]. الأرزاق إليه دارّة، والنِعم حوله متوالية، قال جلّ وعلا: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].

ركابُ الحجيج مُيمِّمةٌ بيتَ الله العتيق، منكسرةً في رحابِه، راجيةً موعودَ الله وجزيلَ نواله، مستقبلةً طاعةً من أجلّ العبادات وركيزة من دعائم هذا الدين.

حجّ بيت الله الحرام بابٌ رحبٌ لحطِّ الأوزارِ والآثام، يقول عليه الصلاة والسّلام لعمرو بن العاص عند إسلامه: ((أما علمتَ أنّ الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأنّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله؟!)) رواه مسلم[1].

فيه غسل أدرانِ الخطايا والرزايا، يقول النبي : ((من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجَع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه[2]. ثوابُه جناتُ النعيم، يقول المصطفى : ((الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه مسلم[3].

في الحجّ منافع وعبر وفوائد؛ التجرُّد من المخيط تذكُّرٌ بلباس الأكفَان بعد الرحيل، وفيه إرشادٌ إلى التواضع ونبذ الكبرياء، الجمع كلُّه إزارٌ ورداء، الرأس خانعٌ للدّيان، هيأته الخضوع والاستكانة للرحمن.

إخلاص العمل لله وإفرادُه بالعبادة شعار الحجّ وبه افتتاح النُسُك: "لبيك اللهم لبيك". فيها إعلان التوحيد ونبذِ الشرك: "لبّيك لا شريك لك لبيك". فيها تذكيرٌ بإسداءِ النعَم والثناءُ على المنعِم: "إن الحمد والنعمة لك". ومن لبّى في بلد الله الحرام كان إلى التزامِ نداء الله بعد حجّه واستجابته لأوامرِه بعد أداء نُسُكه أقرب.

وفي رؤيةِ بيتِ الله المعمور مشهدٌ لإخلاص الأعمال لله. الخليلُ وابنُه يرفعان أشرفَ معمور، ومع هذا يسألان الله قبول العمل وعدمَ ردّه، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ [البقرة:127]. يقول الحسن البصريّ: "المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، والمنافق جمع إساءةً وآمنًا"[4].

وواجبٌ على الحاجّ إخلاصُ أعمال الحجّ وغيرها لله، فلا يريدُ بعمله رياءً ولا سُمعة ولا مباهاة ولا مفاخرة، بل طلبُ رضا الله وتكفير السيئات.

وللطواف وقعٌ على القلوب ومهابةٌ في النفوس في بساطِ بيت الله الآمن، فلا موطنَ على الأرض يُتقرَّب فيه إلى الله بالطواف سِوى ما حول الكعبة المشرّفة.

وفي تقبيلِ الحجر الأسودِ حسنُ الانقياد لشرع الله وإن لم تظهر الحكمة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله، إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضرّ، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبّلك ما قبّلتُك) متفق عليه[5].

وفي مناسكِ الحجّ درسٌ في التقيُّد بالسنّة وحسنِ الاتباع، يقول النبي : ((خذوا عني مناسككم))[6]. فعلى المسلمِ اتباعُ المصطفى في كلّ قربة واقتفاءُ أثره في كلّ طاعة، وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر:7].

أيّها المسلمون، يومُ عرفةَ يومٌ أغرّ، هو ملتَقى المسلمين المشهود، يومُ رجاءٍ وخشوع وذلٍّ وخضوع، يومٌ كريم على المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "الحجيجُ عشيةَ عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمانِ والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعْبير [عنه]"[7].

أفضلُ الدعاء دعاء ذلك اليوم، يقول ابن عبد البر: "دعاءُ يوم عرفة مُجابٌ كلُّه في الأغلب"[8]. والإكثار فيه من كلمة التقوَى مع مفهوم مدلولها ومعانيها خيرُ الكلام، يقول النبيّ : ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير)) رواه الترمذي[9].

يومٌ يكثُر فيه عُتَقاءُ الرحمن ويباهِي بهم ملائكتَه المقرّبين، يقول : ((ما مِن يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) رواه مسلم[10]. قال ابن عبد البر: "وهذا يدلّ على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران"[11].

فكن مُخبِتًا لله في ذلك اليوم، متواضعًا خاضعًا لجنابه، منكسِرًا بين يديه، طامِعًا في كرمِه، راغبًا في وعده، راهبًا من وعيده.

واجتماعُ الناس في عرفة تذكيرٌ بالموقف الأكبرِ يومَ الحشر لفصل القضاء بين الخلائق ليصيروا إلى منازلهم؛ إمّا نعيم وإما جحيم.

والدعاءُ عظيمُ المكانة رفيعُ الشأن، يرفع الحاجّ إلى مولاه حوائجَه، ويسأله من كرمه المتوالي، فتقيّد بشروطِه، وتمسّك بآدابه، واحذَر من الوقوع في شيء من موانع إجابته، وتحرَّ الأوقات والأمكنةَ الفاضلةَ لقبوله، وتوجَّه إلى الله بقلبك امتثالاً لأمره في قوله: فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ [غافر:14]. وارفع له سؤلَك، وناجِه بكروبِك، وأيقِن بتحقيق الإجابة، وألحَّ على الكريم في الطلب، ولا تيأس من تأخُّر العطاء، ففي التأخير رحمةٌ وحكمة، وهو الخلاق العليم، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].

ونُسُك النَّحرِ عبادةٌ محضةٌ لله، يتقرّب بها المسلمون لربِّهم من هديٍ أو أضحية، لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ [الحج:37].

وفي وضع النواصي بين يدَي ربِّها حَلقًا أو تقصيرًا استسلامٌ لهيمَنة الله وخضوعٌ لعظمتِه وتذلّلٌ لعزّته، والذكر وسيلةٌ لحياة القلب وتهذيبِ النفوس وتزكية الفؤاد، وإقامةُ ذكر الله والإكثارُ منه في المشاعر مقصَد من مقاصد أداءِ تلك الشعيرة وأرجَى لقبولها وأصدقُ في إخلاص فِعلها، قال تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ [الحج:28]، وقال جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ [البقرة:198]، وقال جلّ جلاله: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقال سبحانه: وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ [البقرة:203].

فصاحبْ ذكرَ الله في سائر حجِّك، فشعائرُ الحجّ شُرِعت لذلك، يقول النبي : ((إنما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) رواه الترمذي[12].

وأقربُ الحجيج عند الله منزلةً أكثرهم له ذكرًا، يقول ابن القيم: "أفضل أهلِ كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا، فأفضل الصُّوَّام أكثرُهم ذكرًا لله في صومِهم، وأفضل المتصدّقين أكثرُهم ذِكرًا لله، وأفضل الحجّاج أكثرهم ذكرًا"[13].

وإذا انقضَى الحجّ فأكثِر من الاستغفار، فهو ختامُ الأعمال، والاستغفار يُخرج العبدَ من العمل الناقص إلى العمل التامّ، ويرفع العبدَ من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل.

ومَن أحسنَ في حجِّه وابتعد عن نواقصه عادَ منه بأحسن حال، وانقلب إلى أطيب مآل.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27].

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.




[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (121) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

[2] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الحج (1773).

[4] رواه الطبري في تفسيره (18/32)، والطبراني في الأوسط (1/183)، قال الهيثمي في المجمع (9/76): "إسناده حسن".

[5] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: ما ذكر فيه الحجر الأسود (1597)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (1270).

[6] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).

[7] مجموع الفتاوى (5/374).

[8] التمهيد (6/41).

[9] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة رضي الله عنهما. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".

[10] صحيح مسلم: كتاب الحج (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[11] التمهيد (1/120).

[12] سنن الترمذي: كتاب الحج (902) عن عائشة رضي الله عنها، وهو أيضا عند أحمد (6/64، 75، 138)، وأبي داود في المناسك (1888)، وصححه ابن الجارود (457)، وابن خزيمة (2738)، والحاكم (1685)، وقال النووي في المجموع (8/56): "إسناده كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا"، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (410).

[13] الوابل الصيب (ص104).

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا مزيدًا.

أمّا بعد: أيّها المسلمون، مَن فاز بمغنَم الحجّ حقيقٌ به أن يعودَ إلى بلدِه بحالٍ زاكية صالحةٍ مطمئنّة، مليئة بالإيمان والتقوى، نفسُه قويمةُ السّلوك، ذاتُ عزيمةٍ قويَّة في الطّاعَة وإقبالٍ على الربّ.

ومن أمَارة الرّضَا والقبولِ فِعلُ الحسنةِ بعدَ الحسنة، وإذا انقلَب الحاجّ إلى ديارِه فليكُن فيها قدوةً بالصلاح والاستقامة والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ والتمسّك بالدين.

ورحيلُك مِن المشاعر تذكيرٌ لك بالرّحيل من هذه الدّار، فأنت في سفَر سيعقبُه سفر إلى قبرك، فتزوّد من هذه لتلك، يقول ابن القيم رحمه الله: "الناسُ منذ خُلِقوا لم يزالوا مسافرين، وليسَ لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار"[1].

فاغتنِم مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنم، والأيام معدودة، والأعمارُ قصيرة.

ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبينا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...

 



[1] الفوائد (ص190).

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً