أما بعد: فيا عباد الله، إذا بكت العيون كان ذلك دليلاً على خوفها من الله، فإذا جمدت فاعلموا أن جمودها من قسوة القلب، وقسوة القلب من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من نسيان الموت، ونسيان الموت من طول الأمل، وطول الأمل من شدة الحرص، وشدة الحرص من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة.
أيها المؤمنون، تعالوا ننتقل وإياكم إلى باب الرسول ، إلى حبيب الله، إلى حبيب الرحمن، عليه من الله الصلاة والسلام، وبابه مفتوح دائمًا، ليس عليه شرطي ولا حاجب، فما كان عليه الصلاة والسلام ملكًا من الملوك، ولا زعيمًا من الجبابرة، ولا رئيسًا لجامعة، إنما كان يرقع ثوبه، ويخصِف نعله، ويحلب شاته.
لم يكن يمنع أحدًا من الوصول إليه، بل كان يجلس مع المساكين والفقراء تطبيقا لمنهج الله تبارك وتعالى: وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
عباد الله، ذهب وفد من أصحاب الرسول إلى بيته، وهو على فراش الموت، فلما دخلوا عليه قال: ((مرحبًا بكم، حياكم الله، نفعكم الله، سددكم الله، أوصيكم بتقوى الله وعدم الكبر على عباده، فإن الله تبارك وتعالى يقول: فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبّرِينَ [الزمر:72]، ويقول كذلك: تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83])).
لنا وقفة مع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، هذا الصحابي الذي قال ذات يوم: (لقد حفظت سبعين سورة من فم النبي )، وقال كذلك: (صافحت النبي ووضعت يدي في يده، فوجدت فيها جراحًا من العمل على لقمة العيش).
لم يكن هذا الصحابي من ذوي الأيدي الناعمة، ولا من أصحاب المكاتب الفاخرة، ولا تحت قدميه سجادة تغوص فيها الأقدام، ولم يكن بجانبه سكرتيرة فارعة العود رشيقة القوام، إنما كان هذا الصحابي الجليل يسعى على لقمة عيشه بكدِّ يمينه وعرق جبينه، كان يسعى في مصالح المسلمين، وكان معلمًا لهم في أحكام الدين، ولم يأكل أموال المساكين.
ولما وضع النبي يده في يده قال: ((إن هذه اليد لا تمسها النار أبدًا))، كان رضي الله عنه رجلاً، والرجال قليل، كان قصير القامة، رقيق الساقين، صعد ذات يوم شجرة، فلما رأى الصحابة رضي الله عنهم دقة ساقيه تعجبوا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من ساقيه؟ والذي بعثني بالحق، لساقاه أثقل في الميزان من جبل أُحُد يوم القيامة)).
الرجال لا يقاسون بطول ولا بعرض، ولا بهيئة ولا بحسن ثياب، إنما يقاسون بقلوبهم أمام الله تبارك وتعالى، يقاسون بتقواهم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13]، يقاسون بأعمالهم، الأعمال الصالحة التي تصدر عن الإنسان، وليس الأقوال القبيحة التي يندى لها الجبين.
اسمعوا ماذا قال ابن مسعود للرسول وهو على فراش الموت: متى الأجل يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد دنا الأجل، والرفيق الأعلى وسدرة المنتهى))، فمن يغسلك يا رسول الله؟ قال: ((رجال من أهل بيتي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم))، فمن يصلي عليك يا رسول الله؟ قال: ((إذا غسلتموني وكفنتموني، فدعوني على شفير القبر ساعة، فإن أول من يصلي عليّ خليلي، ثم يصلي عليّ إسرافيل، ثم يصلي عليّ ملك الموت)).
وجاء ملك الموت، ودخل على النبي المصطفى ، وكان يمسح وجهه بماء بارد، وهو يتوجه إلى السماء بقوله: ((اللهم هون عليّ سكرات الموت))، النبي كان يقول: ((اللهم هون عليّ سكرات الموت))، وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:19-21].
إذا كان هذا حال المصطفى ، فماذا نصنع نحن يا عباد الله؟! ماذا نصنع نحن في هذه الأيام، وقد ضيعنا البلاد والعباد؟! ماذا نصنع وقد ضيعنا الأمانة؟! ماذا نصنع وقد ارتكبنا المحرمات التي حرمها الله تبارك وتعالى؟!
السيدة فاطمة الزهراء كانت تبكي وتقول: واكرباه على كربك يا أبتاه. فيقول لها : ((يا فاطمة، لا كرب على أبيك بعد اليوم))، وتصعد الروح إلى خالقها، ويوسد النبي تحت أطباق التراب، وتقول فاطمة: يا بلال، كيف طوعت لكم أنفسكم أن تضعوا رسول الله في التراب؟! فيقول لها: يا ريحانة رسول الله، والذي بعث أباكِ بالحق، لو استطعنا أن نرفعه إلى عنان السماء لفعلنا، ولكن كيف وقد أنزل الله تبارك وتعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ [طه:55].
عباد الله، دخل الإمام المزني على الإمام الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقال له: كيف أصبحت اليوم يا إمام؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله واردًا، ولا أدري، روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، ثم بكى وقال:
ولما قسـا قلبي وضاقـت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سُلما
تعـاظمني ذنبـي فلمـا قرنتـه بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلتَ ذا عفـو عن الذنـب لم تزل تجود وتعفو مِنَّة وتكرما
فلولاك لم يصمد لإبليس عابـد فكيف وقد أغوى صفيك آدما
عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما
اللهم إنا نسألك أن توقظنا من غفلتنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا بعفوك وغفرانك، اللهم ألحقنا يا ربنا بالذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك، وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك، واغفر لنا ولجميع المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|