أما بعد: فاتقوا الله، عباد الله، اتقوا الله في سركم وجهركم، اشكروه على ما منّ عليكم من صيام وقيام هذا الشهر الكريم، الذي فضله وشرفه وجعل عشره الأخيرة من أفضل أيامه، وخصّه بليلة هي خير من ألف شهر، وأنزل فيه القرآن، فالسعيد من اغتنم هذه الليالي وعرف قدرها وقام بحقها واستغل أوقاته بالإحسان والبر والصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تبارك وتعالى، قام هذه الليالي بقلب خاشع منيب، وأخلص عمله لربه الحسيب الرقيب.
عباد الله، بعد أيام قليلة يكون رمضان قد أخذ أوراق العباد ليعرضها على الله، رمضان انفرط عقده، وتناثرت حبات لياليه وأيامه، ونراه الآن يجهز نفسه لا ليسافر إلى واشنطن ولا إلى موسكو، ولكن إلى هناك، وما أدراك ما هناك، حيث لا هناك هناك، فالله لا يحويه مكان، ولا يجري عليه زمان، رمضان ذهبت السكرة وحلت الفكرة، رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
فيا شهر الصيام فدتك نفسـي تمهل في الرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول ولّـى وعدت بقابل في خير حال
أتلقانـي مع الأحيـاء حيـا أو أنك تلقني في اللحد بال
فهـذه سـنة الدنيا دوامــا فراق بعد جمع واكتمـال
عباد الله، تعالوا وإيانا لنودع هذا الشهر الكريم ونسلم عليه، فنقول: السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك في الأولين وفي والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، سلام عليك يوم حللت ديار المؤمنين، فنورتها بالقرآن، سلام على قلوبنا التي قربتها لمعرفة الواحد الديان، سلام عليك يوم وصلت أرحامنا، وطهرت نفوسنا، سلام عليك يوم ينادي المنادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، سلام عليك يوم جمعت شملنا وعمرت بيوتنا، سلام عليك وعلى صلاة التراويح وعلى ليلة القدر.
وبعدك يا رمضان، تحزن المساجد، وتطفأ المصابيح، وتنقطع صلاة التراويح، ونعود إلى العادة، ونترك شهر العبادة، والمساجد تشكو إلى الله من قلة الراكعين والساجدين والعابدين، رمضان، يا شهر الصيام، لماذا أراك حزيناً؟ فأجاب: وكيف لا أحزن وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا، ما للمنازل أصبحت لا أهلُها أهلي، ولا جيرانها جيراني.
تعالوا أيها المؤمنون، لنرى كيف كان رمضان عند سلفنا الصالح؟ وكيف أصبح في هذه الأيام! يقول رمضان: كنت عندهم قرآناً وصياماً ونصراً وقدراً وفتحاً وبِراً، كنت قرآناً وصياماً، لأن القرآن والصيام يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، وكنت نصراً لهم في يوم بدر، يوم التقى الجمعان، يوم الفرقان، يوم تحرك معسكر الشرك بصولجانه وقواته، ووقفوا أمام ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً، وصفهم القائد الرباني العظيم: ((اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم)).
وقفوا أمام قوم غلاظ الأكباد، جفاة الطباع، قساة القلوب، فماذا حدث في ذلك اليوم؟ ميزان القوى غير متكافئ، ولكن متى كانت قوة العبد تغني عن قوة الرب، إذا بالقائد العظيم الملهم ينادي صاحب العرش العظيم يقول: ((اللهم إن قريشاً قد أقبلت بخيلها تحادُك، وتكذب نبيك، اللهم أنجز لي ما وعدتني)).
كان هذا في يوم بدر، يوم النصر الحقيقي الذي لا جدل فيه، ولا التواء، ولا متاجرة، ولا مداهنة، ولا مساومة، ولا أنصاف حلول، فالعقيدة لا تقبل المساومة ولا تقبل أنصاف الحلول، ليس بين الإيمان والكفر حد وسط، وإذا بالملاك جبريل يقود كتيبة من الملائكة، هبطوا إلى الأرض، هبطوا إلى أرض المعركة، ألف من الملائكة لا تستطيع الأسلحة البشرية أن تؤثر في أجسامهم، عباد الله هل يهزم جيش فيه الله تبارك وتعالى؟ هل يهزم جند عاشوا ويعيشون مع الله تبارك وتعالى؟ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].
عباد الله، رمضان شهر الفتح، ففي العام الثامن من الهجرة، وفي اليوم العاشر من رمضان دخل القائد العظيم والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة، ولما دخلها قالوا له: انزل بيتك يا رسول الله، انزل ببيتك القديم، فقال لهم: ((وهل ترك المشركون لي بيتاً أنزل فيه)) حتى بيته أخذوه! إذاً فأين ينزل.
وهنا يمر شريط الذكريات ذكريات الوفاء، ونبينا صلى الله عليه وسلم كله وفاء، قال: ((اضربوا لي خيمة أمام قبر خديجة))، وخديجة تحت أطباق التراب، لكنه لا ينسى أيامها، تلك أيام الوفاء، وجلس أمام قبرها يستعيد الذكريات.
وفي ساعة صفت سماؤها، وشهدتها الملائكة، جلس التاريخ على ركبتيه وتمرغ بين يديه، وإذا بقوات المصطفى صلى الله عليه وسلم تحاصر مكة حصاراً محكم الحلقات، وإذا بالرسول عليه الصلاة والسلام يلقي بيانه المشهور أمام أهل مكة، أهل مكة الآن يستمعون جميعاً أمام البيت الحرام، يستمعون إلى القائد المنتصر العظيم، نبينا صلى الله عليه وسلم الآن يقف خطيباً، ويلقي ببيانه الحاسم، وينظر إلى وجوه ذكرته بالعداء، وجوه ناصبته الكراهية والحقد إحدى وعشرين سنة، إحدى وعشرين سنة وهي تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بإمكانه أن يشير بإحدى أصابعه إلى أحد قواته المسلحة، كان بإمكانه أن يلقي إليهم بالإشارة من سبابته، وأن يحول شوارع مكة إلى أنهار من الدماء، ولكن تدرون ماذا فعل؟؟ ما كان يتهدد وما كان يتوعد، وما عرف السجون، ما سمع بالمعتقلات، ولا أقر الظلم حتى مع الكافر، النفوس الكبار فوق الأحقاد، فوق الضغائن، فوق الرذائل، فوق التشفي، لا تعرف حقداً ولا حسداً، وهل هناك يا عباد الله نفساً أكبر من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وبين تيجان السرور وأكاليل السرور وباقات العطور وهلالات النور وكنوز الدر المنشور سأل المصطفى عليه الصلاة والسلام: يا أهل مكة، ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: (خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم)، فماذا أجابهم؟؟ الذين خاطبه ومولاه بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107]، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين)).
أيها المؤمنون، إذا أردنا زعامة فليس لنا أسوة إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا سياسة فليس لنا سياسة إلا في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا حكماً فليس هناك إلا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان رمضان عند المسلمين الأوائل كان حلماً وصياماً ونصراً وفتحاً وبراً وقدراً، فكيف أصبح الآن؟؟ كيف أصبح رمضان يا معاشر المؤمنين؟ أصبح سهرات حتى الفجر، شاشات التلفزة كلها فوازير، وكلها مما حرم الله تبارك وتعالى، والناس حريصون كل الحرص على أن لا يفوتهم حرف واحد من فوازير رمضان، كيف لا؟ والحرف بعشر حسنات(سخرية)!!
أصبح ليله مجوناً، ونهاره إفطاراً، انظروا إلى أماكن اللهو، فهل تروا منهم صائماً! هل تروا مكاناً فارغاً! ترى الجميع - والعياذ بالله - يحاربون الله ويجاهرون بالمعصية، يا رمضان إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولكن لا نقول ما يغضب الله، إنا على فراقك يا رمضان لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وداعاً يا شهر الصيام، والله ما ندري كم واحداً منا ستأكلهم الأرض بين رمضان هذا ورمضان القادم، اللهم إن كنت تعلم أن لنا بقية من العمر فوفقنا لما فيه رضاك يا رب العالمين، وإن كنت تعلم أننا سنقضي رمضان القادم في الدار الآخرة فاجمع بيننا وبين رسولك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، امتثلوا أوامر الله جل جلاله، واجتنبوا ونواهيه وزواجره، واعلموا أن الله قد أمركم في محكم تنزيله بالصلاة والسلام على رسوله، فقال إعلاء لقدر نبيه وتعظيماً: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المصطفى والحبيب المجتبى، إمام المرسلين وخاتم النبيين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأمة المهديين، أولي القدر العلي، والفضل الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن عمي نبيك حمزة والعباس، وعن سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين المطهرين من الأرجاس، وعن أمهما السيدة فاطمة الزهراء وعن سائر أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ارض اللهم عنا بمنّك وكرمك وعفوك وإحسانك يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|