أما بعد: عباد الله، ما سر ما نعانيه من حقد في القلوب، وشحناء في الصدور، وفرقة في الصفوف؟ ما سر ما نعانيه من ضيق المعايش، ومن رفع البركة من الصدور؟
إذا أردتم أن تعلموا ذلك فاقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، إن ما نعانيه من نقص في المعايش ومن شدة في المؤونة ومن سوء المعاملة، مرده أننا أعلنا الحرب على الله، وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله لا يحارب، ومن يعلن الحرب على الله فسوف ينتقم الله منه، اسمعوا قول الباري جل في علاه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، والسنين هي الأيام المجدبة الشديدة القهر، ويقول الإمام رجاء بن حيوة رضي الله عنه: (كانت النخلة لا تثمر في السنة إلا بلحة واحدة)، فمن الذي يملك الزرع والإنبات إلا الله؟ من الذي يملك الأمر كله إلا الله؟
فلماذا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات؟ لقولهم: وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، كفر وعناد وإصرار على الكفر والإلحاد، قالوا لنبيهم: مهما تأتنا به من آية بمعنى أنهم لن يؤمنوا ولن يصدقوا، مهما فعلت فنحن مصرون كل الإصرار على عدم الإيمان بالواحد القهار، فكيف كانت سنة الله في معاملة المصرّين والمعاندين؟ انفتحت عليهم أبواب الغضب، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والسيول التي تهلك الأخضر واليابس، والتي تهدم البيوت، والجراد هو أكثر جند الله تعالى إذا تحرك من قواعده وسارت أسرابه، فلا تقوى على القضاء عليه المدافع الثقيلة أو البعيدة المدى أو الدفاع الجوي، لأن الذي يحركه من قواعده هو الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، أكلت الزرع، وصيرت الأرض الخضراء صحراء جرداء.
تضرعوا إلى الكريم موسى عليه السلام قَالُواْ يٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرٰءيلَ [الأعراف:134]، الله لا يحارب أيها المؤمنون، الله لا يخدع، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يريد الله أن يعامل العباد بمقتضى رحمته وعدله، يريد أن يعاملهم بالرحمة لهم يتذكرون فيرجعون، إنه سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون: ٱذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ [طه:43، 44]، يقول الإمام العارف بالله قتادة رضي الله عنه: (إذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ [النازعات:24]، فكيف يكون عطفك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى، وإذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى [القصص:38]، فكيف يكون عطفك بعبد قال: لا إله إلا الله).
عباد الله، إن فرعون وهو يعاني سكرات الموت بين أمواج البحر كان يقول: أغثني يا موسى، ولم يغثه موسى عليه السلام، وإذا برب العزة يقول لموسى: يا موسى لقد استغاث بك سبعين، مرة ولم تغثه، وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة واحدة، لوجدني قريباً مجيباً، ولكنه لم يقل: يا رب، بل إنه عندما قال: آمنت، لم يقل: آمنت بالله، إنما قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرٰءيلَ [يونس:90]، منعه كبرياؤه وصلفه وعناده أن يقول: آمنت أنه لا إله إلا الله، لم يرض أن يقولها أو ينطق بها، والكل يعلم أن لهذا الكون إلهاً حكيماً عليماً خالقاً ورازقاً.
وهناك ـ يا عباد الله ـ سلاح الجراثيم وما يعرف اليوم بالحرب البيولوجية، يقول المولى تبارك وتعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ [الأعراف:133]، والقمل حشرة خفيفة إذا ثارت بين الناس كانت موصلاً جيداً للطاعون والجرب، الطاعون والأمراض الجلدية، ملأ القمل فراشهم، فكانوا لا ينامون ليلاً، ثم بعد ذلك سلط الله عليهم سلاح الضفادع، فماذا فعلت؟ كان الواحد إذا وضع الطعام أمامه ليأكل تحول الطعام إلى ضفادع، امتلأت الآنية بالضفادع، فإذا رفع الطعام إلى فمه قفزت الضفادع إلى فمه فلا يستطيع الأكل، لا ينام ليلاً لأن الفراش مليئ بالقمل، لا يأكل نهاراً، لأن الطعام مليئ بالضفادع.
فماذا عن الشراب والماء؟ قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ، كان الواحد إذا رفع الماء إلى فمه ليشرب، وعندما يقترب الماء من فمه يتحول الماء إلى دم أحمر، سبحان الله، غفرانك يا رب العالمين، الماء يتحول إلى دم أحمر ءايَـٰتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ومع ذلك أعطاهم الله تبارك وتعالى فرصة لعلهم يتذكرون، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَـٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الأعراف:135]، ينقضون عهد الله تعالى، وليس عهد الله كبقية العهود ـ يا عبد الله ـ فماذا حدث بعد ذلك؟ لا بعد من فعل صارم، لا بد من أمر جازم وحازم، فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ فِي ٱلْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ [الأعراف:136]، التكذيب بآيات الله والغفلة عن ذكر الله بهما يأخذ اللهُ تعالى الأمم، أخذ عزيز مقتدر.
أرأيتم ـ يا عباد الله ـ كيف عاقب الله تبارك وتعالى الأمم الماضية، ونحن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونتعلم، وأن لا نأمن مكر الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [الأعراف:99].
إذاً فلماذا انتشر الفساد بيننا؟ لماذا تسرب الفساد إلى مجتمعنا؟ بل انتشر بين الأفراد والأسر، كيف لا ونحن في أيام الفتن، فقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة أدخلت على قوم من هو ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الخلائق في الأولين والآخرين))[1].
لماذا هذا التسيب إياه الناس؟ إنني أقول هذا الكلام، لأن هناك عبثاً في البيوت، فالواجب علينا أن نتقي الله في أبنائنا وبناتنا، وأن نعلمهم الحلال من الحرام، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث الرسل للتحريم أو التحليل فقط، إن الحلال والحرام بين، وإنما بعث الرسل ليُربّوا الناس حتى يراقبوا الله تبارك وتعالى.
اسمعوا أيها المؤمنون إلى هذا الرجل، وقد قدم له طعام ذات يوم، فقال لابنته: وهي السيدة رابعة رحمها الله ـ وكان لها من العمر ست سنوات ـ قال لها: يا رابعة تعالي لتأكلي فقالت: والله لا آكل حتى أعلم، أمن الحلال هو أم من الحرام، طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، لكن قلبها معلق مع الله تبارك وتعالى، قال لها: يا رابعة، وإذا كان من الحرام، ولم نجد غيرها، فماذا أنت فاعلة؟ فماذا قالت التي تربت على معرفة الله تبارك وتعالى؟ قالت: يا أبتاه أصبر على جوع الدنيا خير من أن أصبر على عذاب النار يوم القيامة.
عباد الله، عسى الله تبارك وتعالى أن يغير حالنا إلى أحسن الأحوال، نحن في محنة عظيمة.
أيها الناس، ضاعت الأخلاق، وضاعت الأرزاق، قولوا للقائمين على التربية: إن الأخلاق في انحدار، وقد طغى الشباب، وفسدت الفتيات، فتن كقطع الليل المظلم، يبيت الحليم منها حيران، وقد صار الحليم حيران، وقد جلس القاضي حيران، اللهم سلم يا رب العالمين.
أيها المصلحون، انظروا إلى الأمة بعين الرعاية والعناية، انظروا إليها بعين الإسلام، اتقوا الله تبارك وتعالى، فقد كفى ما كان، فقد طال بنا زمن العصيان، فحالنا لا يرضى به الواحد الديان.
وأنتم أيها المرابطون، حافظوا على دينكم، وحافظوا على مسجدكم، مظاهر الفساد انتشرت في مدينتنا المقدسة، فبعض التجار عندنا لا يأتون لأداء صلاة الجمعة إلا بعد انتهاء الخطبة، حرصاً منهم على البيع والشراء، أعيدوا هيبة هذه المدينة المقدسة، حافظوا على الصلوات في المسجد الأقصى المبارك، تناصحوا في الله، لماذا أصبح الواحد منا يسير في بيت المقدس، وكأنه يسير في بد أجنبي!! أصوات الآذان في الشوارع، والنساء كاسيات عاريات، حفلات صاخبة محرمة، معاملات ربوية، إدمان على المخدرات، مشاكل كثيرة جراء المعاملات الفاسدة، نصب واحتيال، وعلى مستوى رفيع، ثم بعد ذلك نتوجه إلى الله تعالى أن ينصرنا على أعدائنا!
حقاً ـ يا عباد الله ـ للمسلم أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب النصر على الأعداء، ولكن متى؟ عندما تكون القلوب طاهرة، وعندما تكون الأيدي متوضأة، بعد التوبة والإخلاص والعمل الصالح، وتذكروا أن الخلاص من كل ذلك في خطوة واحدة في قوله تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ [النازعات:40، 41].
ربنا عليك توكنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء (2263)، والنسائي في الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء من الولد (3481)، وابن ماجه في الفرائض، باب: من أنكر ولده (2743)، والدارمي في النكاح، باب: من جحد ولده وهو يعرفه (2238)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4108)، والحاكم (2/202-203). |