أما بعد: فيا عباد الله، إن كان الكون قرآناً صامتاً، فإن القرآن آية ناطقة، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي بين الناس.
الله أكبـر إن ديـن محمـد وكتابـه أقـوى وأقوم حيلا
لا تذكر الكتب السوالف قبله طلع الصباح فأطفئ القنديلا
إنه النبي الذي أعطاه الله تبارك وتعالى شجاعة موسى، وشفقة هارون، وإقدام داوود، وعظمة سليمان، وصبر أيوب، وبساطة يحيى، وسماحة عيسى، وحلم إبراهيم، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
البدر دونك في حسن وفي شرف والبحر دونك في خير وفي كرم
أخـوك عيسى دعى ميتا فقام له وأنت أحييت أجيـالاً من الرمم
أيها المسلم، حاسب نفسك في خلواتك، وتفكر في انقراض مدتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك، وتدبر قبل الفعل ما يكتب في صحيفتك، وانتظر هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك، لقد سعد من حاسبها، وفاز والله من حاربها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلما ضعفت عاتبها، وكلما توقفت جذبها.
ومن هنا قال الإمام الحسن البصري رضي الله عنه: "أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله عزو جل في الدنيا، فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي همّوا به لله عز وجل مضوا، وإن كان عليهم أمسكوا. وإنما يطول وقوفه للحساب يوم القيامة الذين أهملوا الأمر في الدنيا، وأخذوها على غير محاسبة، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر، ثم قرأ قول الله تبارك وتعالى: يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]".
يا خادم الجسم كـم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وامـدد يديك بحمـد الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركـان
عباد الله، الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، كاتم سر الرسول سلى الله عليه وسلم، القائد العسكري المجاهد في سبيل الله، الأمير المحدث القارئ الزاهد، علم من أعلام الصحابة، والصحابة كلهم أعلام، وكلهم أسود، كلهم أئمة يحتذى بهم.
فقد أصدر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قراراً بتعيين حذيفة أميراً على مدينة المدائن التي كانت عاصمة كسرى، وفيها قصره الذي يسمى بالقصر الأبيض.
أيها المؤمنون، تعالوا إلى بلاد العراق لنرى الحكم بالاسلام، وما وظيفة الحاكم المسلم.
الحكم بالإسلام مسؤولية خطيرة، والحاكم المسلم خادم للمسلمين وموظف في مالهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وهو يلخص مسؤولية الحاكم: ((إنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من أداها بحقها))[1].
ومن هنا تسربت الأخبار إلى أهل المدائن أن الأمير الجديد هو حذيفة بن اليمان، فخرجوا على أبواب المدائن ينتظرون قدوم الوالي الجديد، ماذا كان يركب؟ كان يركب دابة متواضعة، ليس معه طابور طويل من الدراجات ولا السيارات، ولم تطلق المدفعية اثنتين وعشرين طلقة لاستقبال من سيحكم عاصة الامبراطورية الفارسية التي تهاوت أركانها تحت ضربات المسلمين الساخنة.
ماذا كان يأكل الأمير؟ فقد كان بيده كسرة من الخبز، حاكم المدائن بيده كسرة خبز، أتدرون لماذا يا عباد الله؟ لأن أميرهم عمر رضي الله عنه كان مثالاً في الزهد والنظافة.
كان عمر ينام على الأرض تحت ظل شجرة، عمر عملاق الإسلام الذي بسط ذراعيه على الفرس والروم ينام تحت شجرة وقد تلفع ببردة، ولم يكن حوله أمن مركزي ولا شرطة عسكرية، فمن الذي كان يحرسه؟
الذي يحرسه الله تبارك وتعالى، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، عمر الحاكم الذي إذا ذكر اسمه ذكر معه العدل، عمر العابد الذي كان يقول: (إذا نمت الليل كله أضعت نفسي عند الله تبارك وتعالى، وإذا نمت النهار أضعت رعيتي).
عمر الإمام الذي كان إذا صلى لا تفتر عينه من البكاء، كان للمتقين إماماً، عمر الذي رآه الصحابة ذات يوم وهو الخليفة الراشد يجري في طرقات المدينة في وقت الظهيرة، والشمس حامية الوطيس، فيسألونه لماذا تجري يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جمل من إبل الصدقة ولى هارباً، فأخشى أن يضيع، فيسألني الله عز وجل عن ذلك يوم القيامة، لله درك يا أمير المؤمنين تجري وراء بعير، وملايين الملايين تبعثر هنا وهناك في هذه الأيام.
رحمك الله يا أمير المؤمنين حين قلت: (إن مثلي ومثل أمة محمد، كمثل الوصي على مال اليتيم). هل كنت يا أمير المؤمنين تجلس في قصر مديد؟ هل كان ـ يا عباد الله ـ أمير المؤمنين يشرب ويطرب، وينعم ببارد الشراب، كلا إنما بصفاته التي ذكرتُ، انتصر الإسلام فقد تعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم أن الحياة عقيدة وإيمان، وصدق وإخلاص.
أيها المؤمنون، ودخل حذيفة رضي الله عنه مدينة المدائن، دخلها تحيط به كوكبة من ملائكة الرحمن، دخلها وهو محاط بحفظ الله تبارك وتعالى ورعايته، اسمعوا قول الباري جل في علاه وهو يقول: إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
وقف حذيفة خطيباً في أهل المدائن، وبعد ما سمى الله تبارك تعالى وأثنى عليه، صلى على نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، إياكم ومواقف الفتن، قالوا: وما مواقف الفتن؟ قال: تأتون أبواب الأمراء، وتمدحونهم بما ليس فيهم، وصلى الله على سيدنا محمد)).
أيها المسلمون، كم استغرق هذا الخطاب من الوقت، دقيقة؟ دقيقتين؟
أراد حذيفة رضي الله عنه أن يغلق الباب في وجوه المنافقين المرتزقة، الذين إذا رأوا إنساناً تولى شيئاً من الحكم التفوا حوله، وسقطوا عليه سقوط الذباب على العفن.
عباد الله، وهل ضيع المجتمعات إلا مواقف الفتن، أصبحنا نقرب كل منافق، ونبعد كل مخلص، وتحولت الأمة إلى بؤر من الفساد، كل حزب بما لديهم فرحون، من ينافق كثير يصل سريعاً، ومن يخلص قلبه وعمله لله توضع أمامه علامات استفهام غريبة.
متى ينصرنا الله عز وجل؟ ينصرنا الله تبارك وتعالى إذا قربنا المخلصين، وسمعنا نصح الناصحين.
عباد الله، والله الذي لا إله غيره، لو كان بيننا ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً على قلوب أهل بدر لفتح المسلمون المسجد الأقصى المبارك، وحرروه من أسره، لو رجعنا إلى الله تبارك وتعالى، لو كان فينا أمثال أصحاب رسول الله لانتصر الإسلام والمسلمون، فالواجب علينا أن نعتمد على الله تبارك وتعالى، وليس على أمريكا أو أوروبا، لا نعتمد إلا على رافع السماء بغير عمد، فهو سبحانه القائل: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2، 3]
أيها المسلمون، ألستم أنت من فتح الفتوح؟ ألستم من قهر التتار؟ ألستم أنتم من حررتم ديار الإسلام وخاصة بيت المقدس من الصليبيين؟
لقد اندحروا خزايا أذلاء.
إن إقامة حكمة الله تبارك وتعالى في الأرض وتثبيت منهجه وإقامة دولة الإسلام هو الحل الوحيد لقضاياكم، فاعملوا ـ يا عباد الله ـ جاهدين بأنفسكم لإقامة حكم الله، من أجل إعادة كرامتكم وعزكم ومجدكم ورفعتكم.
فسلفكم الصالح رضوان الله عليهم أجمعين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان عندما طبقوا هذا المنهج الإلهي كانت لهم الدنيا بأسرها، من مشرقها إلى مغربها، فتحوا البلاد وحرروا العباد، فنالوا الرضا والرضوان، وأسكنهم الله تبارك وتعالى فسيح الجنان، فصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:54، 55].
اللهم إنا نسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بطاعته ورضاه، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيافوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه مسلم من حديث أبي ذر (1825)، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة..
|