.

اليوم م الموافق ‏18/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

الحضارة الغائبة والحضارة الكاذبة

3164

العلم والدعوة والجهاد

محاسن الشريعة

عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

الرياض

25/1/1424

جامع الإمام تركي بن عبد الله

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- النعمة العظمى. 2- محاسن الإسلام. 3- العرب قبل الإسلام. 4- العرب في الإسلام. 5- كذب الحضارة الغربية. 6- عدل الإسلام ورحمته في السلم والحرب. 7- أوضاع المسلمين المزرية. 8- جواب من يسألون عن الجهاد.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.

عبادَ الله، أعظمُ نعمةٍ منَّ الله بها على عبادِه هدايتُهم للإسلام، فالإسلامُ أعظمُ النّعم وأجلّها وأكبرُها قدرًا، ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].

دينُ عقيدةٍ وعمل، وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ [البينة:5]. دينُ دعوة وعلمٍ وهدى، قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. دينُ العدلِ والإحسان، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. دينٌ جاء ليبقَى، فقد كُتِب له الخلود والبقاء، هُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ [الفتح:28]. دينٌ محفوظ بحِفظ الله له من أن تتطرَّقَ له أيدي العابثين زيادةً أو نقصاناً، تحريفاً أو تغييراً، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [الحجر:9]. دينٌ ضمِن الله لأهلِه أن يكونَ في الأرض من يقيم حجَّةَ الله إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها، وفي الحديث الصحيح: ((ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله))[1]. دينٌ شرعَه الله جلّ وعلا، وبعث بِه عبدَه ورسولَه محمّدًا ، ليس هذا الدين نتيجةً أفرزتها عقولُ البشَر ولا تجاربُها، وليست حضارةً مرّت فعبرت وانقطع ذكرُها، وليس هذا الدينُ فقرةً ثقافيّة أملاها التِقاء العقولِ والثقافات، ليست طفرةً فكرية أنشأها التقاءُ العقول والثقافات، ولكنّه التشريع من الحكيم الحميد.

أيّها المسلمون، كان العربُ قبلَ الإسلام يعيشون جاهليّة جهلاء وضلالةً عمياء، لا يعرِفون حقًّا من باطل ولا هدًى من ضلال، ولا يميِّزون بين معروفٍ ومنكر، غارقين في الوثنيّة، في جهالة وضلالةٍ وعمى، وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ [الأنفال:26]، وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا [آل عمران:103]. لم تستطِع لغتُهم يوماً من الأيّام أن توحِّد صفوفَهم، لم تستطِع أن تجمعَ شتاتَهم، فالحروب الطّاحنة بين العرب قائِمة، لم تستطِع عاداتُهم وأخلاقهم أن [تجمعَهم] تحت لواءٍ واحِد، عصبيّةٌ وحميّة جاهليّة، فلمّا جاء الله بالإسلام هداهم به من الضّلال، وجمعَهم به بعدَ الفُرقة، وأعزَّهم به بعدَ الذلّة، وهداهم به من الغوايَة، فكانوا ملوكَ الأرض بهذا الدّين وحدَه لا بسِواه، قال قتادة رحمه الله: كان هذا الحيّ من العرَب أذلَّ الناس ذلاّ، وأعراهم جلوداً، وأجوعَهم بطوناً، وأبينَهم ضلالة، قومٌ يُظلَمون ولا يَظلِمون، وقومٌ بين فارسَ والروم لا وزنَ ولا قيمةَ لهم، فجاءَ الله بالإسلامِ، فأعطى بِه ما رأيتُم، فاشكروا الله على نعمة الإسلام[2].

كان العربُ قبلَ الإسلام ما بين خاضع وذالّ للحكم الفارسي، وما بين من هو خاضعٌ للحكم الرومانيّ، وكلّهم في ذلّ وهوان وفاقة، فلمّا جاء الإسلام واعتنقوا الإسلامَ وآمنوا به كانوا خيارَ الناس بهذا الدين وحدّه، فالحمد لله على نعمة الإسلام. فالعرب لا عزَّ لهم ولا مجدَ لهم ولا قوةَ لهم إلاَّ إذا تمسَّكوا بهذا الدّين علماً وعمَلاً، وحكَّموا شرعَ الله في كلّ أحوالهم، فالعزّ والتمكين كائنٌ لهم بتوفيقٍ من الله وفضل.

أمّة الإسلام، قبلَ الإسلام حضاراتٌ قامت على الظلم والجور والعدوان، فلمّا جاء الله بالإسلام أزال به تلك المظالمَ، وهدَم ذلك البنيانَ القائم على غير هدى، وأقام دولةَ الإسلام، دولةَ العدلِ والرحمة والإنصاف، دولةَ الخيرِ والهدى، وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107].

أيّها المسلمون، يعيش العالمُ اليوم في معظَم أحوالِه حضارةً غربيّة ماديّة جوفاء، ترفع شعاراتٍ هي أبعدُ الناس، هي أبعد الناس عن تلكمُ الشعارات التي ترفعُها وتنادِي بها، نَعَم إنّهم خدعوا الناسَ بشعاراتِهم الزّائفة التي يزعمون أنّهم يحقِّقون بها للبشريّة العدالةَ والإنصاف، ولكنّهم أولُ النّاس مناقضةً لها عندما لا تتّفق مع مصالحهم الماديّة. قالوا: نحن نرعَى حقوقَ الإنسان، ونهتمّ بحقوق الإنسان، ونقومُ بحقوق الإنسان، وقد كذَبوا والله، فما أعطوا الإنسانيّةَ حقَّها، بل ظلموا الإنسانَ في كلّ أحوالهم. قالوا: نحن نَرعى حقَّ المرأة، وننصِفها في مجتمعها، والله يعلم إنّهم لكاذبون، فالمرأة تئِنُّ من ظلمِهم وعدوانهم. قالوا: نحن نحترم المواثيقّ والعهود في الحرب والسلم، وقد فضحهمُ الله، فكشَف أستارَهم، وبيَّن تناقضَهم، أين الالتزام بالمواعيد والعهود في الحرب؟ أين الالتزام بها، والأبرياءُ والعُزَّل من المسنِّين والنّساء والأطفال يصَبّ عليهم أنواعُ العذاب بلا بتميز؟! أين الوفاءُ بالعهود في استعمال أسلحةِ الدّمار التي أهلكتِ الحرثَ والنسل، لوّثتِ المياهَ وأحدثت الفساد؟! أين المعاهداتُ في استعمال أسلحة تبقَى آثارُها السيئة، تعقِم الرجالَ، تشوِّه الأجنّة، تفعَل كلَّ الأفاعيل السيّئة، بل يستمرّ ضررُها عشراتِ السنين؟! أين المواثيقُ من دفنِ النفاياتِ الضارّة السامّة التي تترك أثرَها في الأرض سنينَ عديدة؟! إنَّ المواثيق والعهودَ في الحرب لم يطبِّقها أحدٌ منهم، هي فقط مجرَّدُ شعارات لا أرضَ لها في الواقع، إنَّه الظلمُ والعدوان والتسلّط على البشريّة بكلِّ ما يسمَّى من تسلّطٍ وظلم وعدوان.

أيّها المسلمون، إنَّ دينَ الإسلام هو دين الرحمةِ في الأحوال كلِّها، ففي السِّلم دينُ عدلٍ وإنصاف واحترام للمواثيق والتزامٍ للعهود وإعطاءِ المستأمَنين أمانَهم والوفاءِ لهم بحقوقِهم، وفي حالِ الحرب عدلُ الإسلام، لا يقتَل طفل ولا امرأةٌ ولا مسنّ ولا راهبٌ في صومَعَته، ولا يفرِض على النّاس أمورًا لا يريدونها، الإسلامُ لم يكن متطلِّعًا لسفكِ الدّماء، ولكنَّ الرحمة والإحسانَ هو الذي جاء به الإسلام، [جاء] بالرّحمة والعدلِ والقيام بالواجب، لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ [البقرة:256].

أمّة الإسلام، لقد أصبحَت أجسادُ المسلمين حقولا لتجارُب الأسلِحة الفتّاكة التي يريد تجريبُها واستعمالها، فأجسادُ المسلمين وبلادُهم حقولُ التّجاربِ لهذه الأسلِحة الفتّاكة المجرِمة، وذاك بأسبَاب ذنوبِ العباد، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].

فعلى المسلمِين تقوى الله في أنفسِهم، والاستقامة على دينِهم، والرجوع إلى الله، والإنابة إليه، والالتجاء إليه، آناء الليل وأطراف النهار.

إنَّ هذه الأحداث الجسام لا يعالِجها مجرّد قيلٍ وقال، ولكنّها الحكمة والبصيرة والتأنّي في الأمور في علاج هذه المشكلاتِ والنازلةِ الجسيمة، فنسأل الله أن يوفّقَ ولاة أمر المسلمين لما فيه خيرُ الإسلام في الحاضر والمستقبل، وعلاج هذه النوازل بما يدرَأ عن الأمّة شرَّها وضرَرَها، إنّه على كل شيء قدير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه بنحوه.

[2] أخرجه الطبري في تفسيره (4/37، 9/220) بنحوه.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عبادَ الله، يتساءل كثيرٌ من شبابِنا، يتساءلون فيقولون: متَى يكون الجهادُ متعيِّناً على الفردِ المسلم؟ وهل هنا وقتٌ صار الجهاد فيه متعيِّناً؟ نقول: يا أخي المسلم، الجهادُ بلا شكّ خلقٌ عظيم، وفضلُه كبير، ولا يشكّ في فضلِه مسلم، فقد دلَّ الكتاب والسنةُ على فضلِه وشرفِه، لكن يا أخي المسلم، اعرِف أمورًا مهمّة:

أوّلاً: الجهادُ لا يكون جهاداً حقًّا إلا إذا قصَد به المجاهدُ إعلاءَ كلمة الله، ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))[1].

ثانياً: استرضاءُ الأبوين عند جهادِ التطوّع، فالنبيّ قال لمن استأذنه في الجهاد: ((أحيٌّ والداك؟))، قال: نعم، قال: ((ارجع، ففيهما فجاهد))[2].

أمرٌ آخر: تفكَّر أيّ رايةٍ تقاتل تحتها؟ ومع من تقاتِل؟ ولغاية من تقاتل؟ لا بدّ من تدبّر هذه الأمور لتعلمَ أنَّ الحكمةَ لا بدَّ من استعمالها، فليس الهدفُ أن تخرجَ من بلادك، وتزجَّ بنفسِك في أمورٍ أنت لا تحسِن تدبيرها، ولا تدرِك نتائجَها، ولكن تقع في شرَك من البلاء لا يعلمُه إلا الله.

فوصيّتي لك تقوى الله، وأن تستقيمَ على الهدى، وتسألَ الله للإسلام والمسلمين العزَّ والتمكين، ولمن أرادَهم بسوء الذلَّ والهوان. وأمّا أن تزجَّ بنفسك في أمرٍ لا تحسن أمرَه، ولا تدري عن غاياتِه، ومع من تقاتِل؟ وتنصُر مَن؟ إلى آخر ذلك، فتدبَّر الأمرَ تدبّراً صحيحًا لتكونَ على بصيرةٍ في أمورك كلِّها.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...

 

 



[1] أخرجه البخاري في العلم (123)، ومسلم في الإمارة (1904) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في الجهاد (3004)، ومسلم في البر (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً