أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذَروا عقابَه فلا تعصوه.
أيّها المسلمون، اعلموا أنَّ الإسلامَ جاءَ لتحقيقِ غايةٍ عظيمة، وجاءَ ليقومَ بمهمّة جسيمة، ألا وهي القيام بحقِّ الله تعالى وحقوق الخلق، لقوله تبارك وتعالى: وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء: 36]، وما سِوى هذه الغايةِ من عُمران الأرض وتشريع الحدود وكفِّ الظلم ونحو ذلك فهو تابع للغايةِ الكبرى التي هي الوفاء بحقّ الله وحقوق الخلق، ووسيلةٌ إلى هذه الغاية، وتمهيد إليها.
والخلق الحسنُ أساس القيامِ بحقّ الله تعالى وحقوق الخلق، والخلقُ الحسن بالإيمانِ أصلُ الوفاءِ بحقّ الله وحقّ العباد، وبذلك ترفَع الدرجات وتكفَّر السيئات، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إنَّ المؤمنَ ليدرك بحسنِ خلقه درجةَ الصّائم القائم)) رواه أبو داود، وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما مِن شيءٍ أثقل في ميزانِ العبدِ المؤمن يومَ القيامة من حسن الخلق، وإنَّ الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، فالخلق الحسن جماعُ الخير كلّه.
والخلق الحسن هو كلّ صفةٍ حميدة في الشّرع والعقل المستقيم، وقال بعض أهلِ العلم: "الخلق بذلُ الخير وكفّ الشرّ"، ويقال: "الخلق الحسن بذل النّدى وكف الأذى".
والقول الجامعُ للخلق الحسن هو كلّ ما أمر الله به، وترك كلّ ما نهى الله عنه، كالتقوى والإخلاص والصبرِ والحلم والأناة والحياءِ والعفّة والغيرة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والرحمة وإغاثة الملهوف والشجاعة والكرم والصدق وسلامة الصّدر والرّفق والوفاء والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحسن الجوار والتواضع والتحمّل والسماحة ومجانبة المكر والخديعة ومجانبة الغدر والخيانة ومجانبة الفواحش والمنكرات وخبائث المشروبَات وخبائثِ المآكلِ والكذب والبهتان والشحّ والبخل والجبن والرّياء والكبر والعجب والظلم والعدوان والحقد والغلّ والحسد والبعد عن التّهم ونحو ذلك.
والخلق الحسن ينفَع المؤمنَ في الدنيا والآخرة، ويرفع درجتَه عند ربِّه، وينتفع بخلقِه البرّ والفاجر، وأمَّا الكافر فإنما ينفعه خلقه في الدنيا، ويثيبُه الله عليه في العاجلة، وأمَّا الآخرة فليس له فيها نصيب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يَا رسولَ الله، أرأيتَ عبد الله بن جدعان فإنّه كان يقري الضيفَ ويكسب المعدومَ ويعين على نوائب الدهر، أينفعُه ذلك؟ فقال النبي : ((لا، إنَّه لم يقل يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
وقد أمرَ الله تعالى في كتابِه العظيم بكلِّ خلق كريم، ونهى عن كلِّ خلق ذميم، وجاءت السنّة النبويّة كذلك، آمرةً بكلّ خصلة حميدة، ناهية عن كلّ خصلة خبيثة، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وحسبُنا في ذلك مثلُ قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقوله تبارك وتعالى: ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَٱلضَّرَّاء وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وقوله تبارك وتعالى: خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ [الأعراف:199]، وقوله عز وجلّ: وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ [النحل:127]، وقوله تبارك وتعالى: وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وقوله عز وجلّ: وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقول الله تعالى: تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وقوله عز وجل: وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:63-68]، وقوله عز وجل: يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ [المائدة:1]، وقول الله تعالى: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر:7].
وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقَه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبرُكم بمَن يحرُم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كلِّ قريب هيِّن ليِّنٍ سهل)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إنَّ الرفقَ لا يكون في شيء إلا زانَه، ولا ينزَع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم.
وعن النّوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله عن البرّ والإثم فقال: ((البرّ حسن الخلق، والإثمُ ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطّلع عليه الناس)) رواه مسلم.
الخلق الحسن ـ يا عباد الله ـ بركةٌ على صاحبه وعلى مجتمعه، وخيرٌ ونماء، ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوبِ الخلق، وطمأنينة وانشراح في الصدور، وتيسير في الأمور، وذِكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى.
وسوءُ الخلق شؤم ومحْق بركة وبغض في الخلق وظلمَة في القلوب وشقاء عاجل وشرّ آجل.
أيها المسلمون، اقتدوا بالسلف الصالح الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق وشهد لهم بذلك العليم الخلاق في مثل قول الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ [الفتح:29]، وقوله تبارك وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران:110]، فهم خير الناسِ للناس، وقوله تبارك وتعالى: مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
فكلّ واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم أمّةٌ وحدَه في مكارم الأخلاق والبعدِ عن سفاسف الأمور، يُعلَم هذا من تفصيل سيَرهم وأحوالهم.
والمثلُ الأعلى في كلّ خلق كريم، وفي كلّ وصفٍ حميد عظيم، سيد البشر سيدنا محمد ، فهو القدوة التامّة في كلّ شيء، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]، فقد أدّبه ربّه فأحسنَ تأديبَه.
واعتنى أعظمَ عنايةٍ بتربية الأمّة على كلّ خلقٍ حميد وفعلٍ رشيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّما بعثتُ لأتمّم صالحَ الأخلاق)) رواه أحمد.
وأثنى اللهُ على نبيّه عليه الصلاة والسلام أفضلَ الثناء، ثناءً يتردَّد في سمعِ الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون من الجنِّ والإنس، ولا تُنسيه سرمديّة الزمان، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28].
عن عائشة رضي الله عنها أنّها سئِلت عن خلُق رسول الله : فقالت: كان خلقه القرآن.
قال ابن كثير رحمه الله: "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيَّة له، وخلقًا تطبّعه، وتركَ طبعَه الجبلي، فمهمَا أمرَه القرآن فعَله، ومهما نهاه عنه ترَكه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء والكرم والشجاعة والصَّفح والحِلم وكلِّ خلق جميل" انتهى.
وحتَّى قبلَ البعثةِ لم يجدوا عليه سقطةً ولا عيبًا يُذمّ به، مع كثرةِ أعدائه، وتوافرِ دواعيهم وحرصِهم، ولمّا فجأه الوحي قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فقالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصِلُ الرحم، وتصدُق الحديثَ، وتحمِل الكلَّ، وتقرِي الضيفَ، وتعين على نوائِب الحقّ. رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.
فهذا بعض خلقِه الكريم قبلَ البعثة، فأتمَّ الله عليه النعمة والخلقَ العظيم بعدَ البعثة.
فتأسَّوا ـ معشر المسلمين ـ بنبيّكم ، بالتمسّك بدينه القيّم، والعمل بشريعته الغراء، والتخلّق بأخلاقه الكريمة، بقدْر ما يوفّقكم الله لذلك، واحملوا أنفسكم على منهجه مخلصين لله تعالى، متّبعين لسنته، غيرَ مبتدعين في دينه، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:21].
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ المداراةَ من الخلق الحسَن، والمداهنة من الخلقِ الذميم، فالمداراة هي دفعُ الشرّ بالقول الحسن أو الفعل الحسَن، وتبليغُ الحقّ بأسلم وسيلة، وتكون في بعض الأحوال، والمداهنةُ هي السكوت عن الحقّ أو الموافقة في المعصية.
قال الله تعالى: يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنَا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|