أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة، خُطبتي لهذه الجمعة عن ظاهرة خطيرة، سمُّوها ظاهرةً أمنية أو اجتماعية أو صحية أو ما تريدون، لا يهمنا، كم هي مشتركة في عدة ظواهر ومظاهر، ولكن الذي نعرفه جميعاً أنها ظاهرة كبرى، أتدرون ما هي؟
إنها يا قوم: ظاهرة انتشار المسكرات والمخدرات.. تهريباً وترويجاً، وأخيراً الهدف من كل ذلك هو التعاطي والاستعمال.
إذاً، حديثنا اليوم عن داءٍ خطير من صنوف الخبائث، بل أم الخبائث، إنها الخمر والمسكرات والمخدرات والتي ما انتشرت في مجتمع من المجتمعات فسكتوا عن إنكارها على مر التاريخ إلا وكُتب لذلك المجتمع الانهيار والنهاية.
ولا يخلو هدف المهرب والمروج من أمرين: إما مؤامرة على الأمة وإما هدفاً اقتصادياً مادياً دنيوياً. وإذا سألتموني ما سبب اختيار هذا الموضوع للحديث فيه لهذه الجمعة، فالسبب يسير: إنه ببساطة للانتشار الفاحش والغير عادي للمسكرات والمخدرات التي جاءت ضمن سياق شبه طبيعي بعد الدخان والشيشة ومن ثم الخمور والمسكرات ثم وصلنا إلى المخدرات حيث بدأنا بالحبوب المنبهة عند الطلاب للامتحانات وعند السائقين للأسفار ثم مروراً بالحشيش شرباً مع الدخان ثم وصلنا إلى الهيروين والأفيون والكوكايين، وهكذا دواليك نعرف بعضها ونجهل أكثرها، وهي تتزايد مع الأيام والسنين.
وإذا أردتم الحقيقة كاملة عن السبب الرئيس لمبادرتي هذه الجمعة في طرح هذا الموضوع فهو: الواقع، نعم أعني واقعنا نحن بالذات، وما أدراك ما واقعنا. إن الساكت عن الأمراض الاجتماعية والصحية والأمنية يسمى عندنا (حكيم) و(متزن)، وأما الذي يطرح أمراض مجتمعه ووطنه وأمته فهو عندنا (متهور) و(متعجل) وإلى آخر مصطلحاتهم التي نعرف أولها ونجهل نهايتها، وما هذا إلا لأجل تبرير تقصيرهم.
يا إخوتي، ماذا تنتظرون ونحن نرى من أخوتنا من يموت لتعاطيه المخدرات، هل تريدون الواقع كما هو؟ خصوصاً وأن حديثنا اليوم محفوف بيني وبينكم، إذاً فخذوا هذا السبب: خلال هذا الأسبوع المنصرم فوجئت بوفاة أحد مواطنينا لسبب تعاطيه الهيروين، حيث مات بعد أن ضرب الإبرة في وريده، وقبله مات كثير من هؤلاء، وحتى لا نرى في المستقبل هذه النهاية جاءت هذه الخُطبة.. نعم مات بهذا السبب، وكم هم الذين لحقهم وكم سيلحقونه لنفس السبب.
يا أحبتي، لقد كرم الله عز وجل، بني الإنسان على كثير من مخلوقاته: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
كرم الله عز وجل بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات، من جماد وحيوان، ونبات وجان؛ كرمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، به ترتقي الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون مناط التكليف.
نعم، العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافاً بفضلها، وخوفاً من ضياعها وفقدانها. نعم: بالعقل يشرف العقلاء، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له. وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يُفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الانتفاع.
ومن فَقد عقله، لا نفع فيه ولا يُنتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه. هذا العقل الثمين، الذي هو مناط التكليف، يوجد في بني الإنسان، من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه، ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهراً جلياً، في مثل كأس خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر وشرب مفتر، تُفقد الإنسان عقله؛ فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة؛ فتُشَل الحياة، ويُهدَّم صرح الأمة، وينسى السكران ربه، ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه، ويقتل إرادته، ويمزق حياءه.
ثم أيتَم أطفاله، وأرمَل زوجته، وأزرى بأهله لمـَّا فقد عقله، فعربد، ولهى، ولغى. وبذلك كلِّه، يَطرح ضرورة من الضروريات الخمس، التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها، ألا وهي ضرورة العقل.
إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية؛ ففاقد العقل بالسكر سواء كان بالخمر أو المخدر، يُسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذُل والدمار؛ فيُخل بالأمن، ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثُمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين.
أيها الإخوة: هذا أبو محجن الثقفي، الذي اشتهر بالخمرة في جاهليته، وهو الذي يُنسب إليه قوله:
إذا ما مت فادفني إلى جنب كَرْمَةٍ تَروي عظامي في الممات عروقُها
ولا تـدفِنَنَّي بالفــلاة فــإنني أخـاف إذا مـا مـِت ألا أذوقُـها
فلما تمكن حب الله ورسوله من قلبه أبلى بلاء حسناً في معركة القادسية، وقال له سعد بن أبي وقاص: لا حَبِستك في الخمر بعدها أبداً، فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشرِبها بعد اليوم أبداً، فنعم الإسلام هادياً ومؤدباً.
روى البيهقي بإسناد صحيح عن عثمان بن عفان أنه قال: كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فأحبته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة (أي حسناء جميلة) جالسة، عندها غلام وإناء خمر، فقالت له: إنها ما دعته لشهادة، وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر، فلما رأى أنه لا بد له من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشرِبه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام.
قال أمير المؤمنين عثمان: فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه.
أيها الإخوة، الغريب أن نرى المخدرات منتشرة بين الشعوب المسلمة التي منّ الله عليها بهذا الدين العظيم فما أسباب ذلك؟ فإنَّ وقفتنا على المسببات ومعالجة تلك الأسباب وتلافي دواعيها هو أول طريق الخلاص من مثل هذه الآفات الخطيرة.
وأول هذه الأسباب: ضعف الوازع الديني، والبعد عن دين الله، إضافة إلى ضعف وسوء التربية والرعاية، فالشخص المتمسك بدينه المرتبط بالله جل وعلا وعباداته صدقاً، فمن صام وصلىَّ وذكر الله فإنه لا يمكن أن يكون بينه وبين هذه الأدواء صلة.
والسبب الثاني: الفراغ الذي يعود بالأثر السيء على صاحبه، فيضطر إلى قضاء وقته بما لا ينفعه أو فيما يضره، إضافة إلى تهيؤ الفرص وإتاحة المحرم وسهول التحصيل، فضلاً عن المثيرات والمغريات، يرافقها ضعف في التوعية والتوجيه كمَّاً ونوعاً عبر منافذها، فكم يستكثر بعض إخوتنا كلمة هنا ومحاضرة هناك وزيارة في مكان ثالث.
ومن أسباب انتشار الخمور والمخدرات: عدم الوعي بها وعرضها في وسائل الإعلام والقنوات، وبأشكال مغرية وأوضاع لشاربيها تدعو أولئك المراهقين إلى ممارستها وتذوقها، بدعوى اللذة والنكهة، فلست أدري كيف يمضي مثل ذلك على مجتمع كمجتمعنا وكيف يغفل عن رقابة ذلك الآباء والأولياء، بل قد يسعون لتوفير كل ذلك وعدم الاعتراض عليه.
إخوة الإيمان، إن كثيراً من شبابنا ممن يقع في هذه الهاوية حينما تسأله عن سبب ذلك، لا يلبث أن يردك إلى سبب من تلك الأسباب، فيتكلم لك عن رفقة سار معهم حتى أوصلوه إلى حافة الهلاك، يكلمك عن أب أطعمه وسقاه وكساه وأسكنه، لكنه غفل عنه ولم يسأل عن حاله، بل قد تمضي الأيام وهو لا يراه، والمصيبة حينما يُسمح له بالسفر إلى خارج البلاد ليبيع دينه وأخلاقه بلذاته، وقد يكون سبب حاله بعده عن الله وغفلته وإعراضه عن دينه كترك الصلوات وسائر العبادات.
وإننا من هنا نقف شاكرين وداعين الله بالتوفيق لرجال مكافحة المخدرات ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شاركهم، والذين يقفون بجدية وتضحية لمحاربة هذا الداء العظيم، ويحاربون في سبيل عدم انتشاره في مجتمعنا المؤمن، داعين الله بحفظهم، وأن يجعل كل ذلك في ميزان حسناتهم. وإنني أدعو كل من ابتلي بقريب أو صديق قارف تلك الخطيئة، أن يعزم على معالجته وإبعاده عن الأسباب المؤدية به إلى هذه السقطة، وأبواب مستشفيات الأمل في بلادنا مفتوحة لعلاج مثل هؤلاء الذين حادوا عن جادة الصواب، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء لواجب الأمانة التي وضعها الله في أعناقنا نسأل الله الإعانة عليها.
إخوة العقيدة، قد كان من المشركين من يمتنع عن هذه الأشياء لما ظهر له من أبين الأدلة وأوضحها أنها ضارة خبيثة، فهذا قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه، كان شراباً للخمر مولعاً بها، ثم حرَّمها على نفسه وامتنع عن شُربها، والسبب في ذلك أنه سكر ذات يوم في الجاهلية، فغمز عكنة ابنته وهو سكران، وشتم والديه، وأعطى الخمَّار مالاً كثيراً، فلما أفاق وأخبروه بما فعل حرمها على نفسه وقال:
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشرَبها صحيحـاً ولا أشـفـي بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ولا أدعـو لها أبـداً نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم إلى الأمر العظيما
ومن العقوبات دخول النار، جاء في سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال: ((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وِسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ ـ أي في الرابعة ـ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا رَدْغَةُ الْخَبَالِ؟ قَال: ((عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ)). ومن ذا الذي يضمن أن لا يتوفاه الله وهو سكران والعياذ بالله؟.
عباد الله، لقد مر علينا في بلادنا هذه زمان كان الذي يشرب فيه الدخان يُقاطع ويُهجر ويُرمى بالفسق، ثم أدخل أعداء الله أنواعاً وأشكالاً من المسكرات والخمور، فوقع فيها الغافلون البعيدون عن رب العالمين، فأصبح الناس يحذرون من الخمور، وتساهلوا في الدخان حتى ترك المسلمون الإنكار على شاربيه، والآن تسلط أعداء الله على كل البلاد الإسلامية بلا استثناء، بمختلف أنواع السموم البيضاء من مخدرات ونحوها، حتى تساهل الناس في الخمر وشُربها، فلم نعد نسمع من ينكر على شارب الخمر كما كنا نسمع من قبل، ولا شك أن المعاصي يرقق بعضها بعضاً.
إن النبي لعن كل من يتعامل مع الخمر، والمخدرات من باب أولى، فقال كما في سنن أبي داود من طريق ابن عمر: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)) فهل بعد هذا كله يشرب عاقل الخمر أو يتعاطى المخدر؟!
فاتقوا الله عباد الله وابتعدوا عن هذه القاذورات والنجاسات، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، بلغوا عن من يتعاطى أو يروج لشيء منها، تفقدوا أغراض أولادكم بين الفينة والأخرى، تفقدوا رفاقهم وأحوالهم، فإن تعاطي تلك الأمور لا يكون إلا عن طريق رفاق السوء، تجنبوا إعطاءهم أموالاً فوق حاجتهم، لأن الترف وكثرة المال الزائد يؤدي بالشاب الذي لا يعرف خوف الله ولا يصلي إلى الانحراف والعياذ بالله.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
|