.

اليوم م الموافق ‏19/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم

2763

الإيمان, قضايا في الاعتقاد

الإيمان بالرسل, البدع والمحدثات

عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

الرياض

5/3/1423

جامع الإمام تركي بن عبد الله

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- نعمة بعثة النبي . 2- من حقوق المصطفى الإيمان به وطاعته. 3- من حقوق المصطفى تحكيم سنته. 4- فضل محبة النبي . 5- ثمرات محبة النبي . 6- علامات محبة النبي . 7- نماذج عظيمة من محبة الصحابة للنبي . 8- أمور ليست من المحبة الشرعية في شيء. 9- شروط قبول العمل. 9- القصد الحسن لا يبرر المحدثات في الدين.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.

عباد الله، إن الله جل جلاله ذكَّر عبادَه المؤمنين منَّته عليهم وفضلَه عليهم بمبعث محمد ، ليعرفوا قدرَ هذه النعمة، فيشكروا الله عليها، ويحمدوه عليها، ويلتزموا ما جاء به محمد علماً وعملاً: لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]. أجل، إنها منة كبرى ونعمة عظمى لمن تدبَّر وتعقل.

لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المنة، ويعرفون قدرَ هذه النعمة حقَّ المعرفة، لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ، يعرفون حسبه، يعرفون نسبَه، يعرفون صدقَه، ما جُرِّب عليه كذب، وما عُرف بخيانة، ولا عُثر [فيه] على خلقٍ سيئ، بل هو محفوظ بحفظ الله من نشأته إلى وفاته، محفوظ بحفظ الله من كل سوء، ما عبد وثناً، وما تعاطى مسكراً، وما اقترف جريمةً، بل هو معروف عندهم بالصادق الأمين، أدَّبه ربه فأحسن تأديبَه، وعلَّمه فأحسن تعليمَه، واختاره لهذا الأمر العظيم، لهذه الرسالة الكبرى، وربُّك يعلم حيث يجعل رسالته.

يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ، يتلو عليهم هذا القرآن، فيه خبر من قبلهم، وحكم ما بينهم، ونبأ ما بعدهم. يتلو عليهم هذا القرآن الذي هو سبب لإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ [إبراهيم:1].

وَيُزَكّيهِمْ، يزكي أخلاقهم، يزكي نفوسهم، يزكي عقولهم بطهارتها من الشرك قليله وكثيرة، وطهارتها من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال.

وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ، علَّمهم القرآن، وعلمهم السنة، وإن كانوا من قبل مبعثه لفي ضلال مبين. أجل، كانوا قبل مبعث محمد في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخبراً النجاشي لما سأله قال: كنا عبادَ أوثان، نأكل الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمداً ، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور[1]. فهم قبل مبعثه في غاية من الضلال، قد اندرست أعلامُ الهدى، فليس الحق معروفاً، ولكن الله أنقذ هذه الأمة بمبعث محمد .

إن مبعثَه رحمةٌ للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107]، وكتابه نذير للعالمين، تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، بعثه الله برسالةٍ للخلق كلهم، عربِهم وعجمهم، وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].

فنسخ الله به كلَّ الشرائع، نسخ الله بشريعته كلَّ الشرائع، وألزم الخلقَ طاعتَه، وحكم على من خرج عن شريعته بالخسارة في الدنيا والآخرة: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [آل عمران:85]، ويقول : ((لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار))[2]، لأن الله جل وعلا ختم برسالته كلَّ الرسالات، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيّينَ [الأحزاب:40].

أيها المسلم، حقُّ محمد علينا أمور، فمن أعظم حقه الإيمان به، فمن أعظم حقه أن نؤمن به، ونصدق رسالته، ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الخلق كلهم. ومن حقه علينا أن نسمع ونطيع له، فإن طاعته طاعة لله، مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ [النساء:80]، وطاعته سبب للهدى، وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]. ومن حقه علينا أن نحكِّم سنته، ونتحاكم إليها، ونرضى بها، وتطمئن بها نفوسنا، وتنشرح لذلك صدورنا، فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، وإذا أمر بأمر أو حكم بحكم نقبله وليس لنا خيرة في ذلك، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]. إن طاعته سبب لدخول الجنة، يقول : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى))، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))[3].

أيها المسلم، إن محبة رسول الله عنوانُ الإيمان، محبةُ رسول الله المحبة الصادقة، بأن تحبَّه محبةً فوق محبة نفسك التي بين جنبيك، قال عمر: يا رسول الله، والله إنك لأحب الناس إليَّ إلا نفسي، قال: ((لا والله، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، قال: لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: ((الآن يا عمر))[4]. وأخبر أن محبته محبة فوق محبة الولد والوالد فقال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده))[5]. وأخبر أن العبد لا ينال كمال الإيمان حتى يحب هذا النبي محبة فوق محبة الأهل والناس أجمعين، فيقول : ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله والناس أجمعين))[6].

أيها المسلم، ثمرة تلك المحبة أولاً: طاعة الله ومحبة الله، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران:31]، فلا ينال عبدٌ محبة الله حتى يحبَّ هذا النبي الكريم محبةً صادقة من عميق قلبه. ومِن ثمرات محبته أن المحبَّ له يُحشَر معه يوم القيامة، ويلتحق به يوم القيامة، سأل رجلٌ النبي فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ((ما أعددتَ لها؟)) قال: حب الله ورسوله، قال: ((المرء مع من أحب))، قال أنس: فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحَهم بما قال النبي : ((المرء مع من أحب))، قال أنس رضي الله عنه: فإني لأحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن يلحقني بهم وإن قلَّ عملي[7].

أيها المسلم، إن لمحبة رسول الله علاماتٍ تدلّ على كمال محبة المسلم لمحمد ، فليست المحبة له مجردَ ادعاء، ولكنها حقائقُ واقعة باتباع سنته وتطبيقها، والسؤال عنها ومحبتها، ومحاولة تطبيق المسلم سنةَ رسول الله في كل عباداته وأحواله، فما بلغه من سنته من شيء إلا أخذ بها وعمل بها وطبقها وفرح بذلك. إن محبتَه لا تكون بغلوِّ الغالين فيه، ولا تكون بجفاء الجافي. إن محبتَه اتباعُ ما جاء به وتحكيمُ شريعته، وأعظم ذلك عبادةُ الله وحده لا شريك له، وصرف كل أنواع العبادة لرب العالمين، وأن لا يُصرف منها شيء لغير الله، وقد أمره الله أن يقول: قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:21، 22]، وقال له: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء [الأعراف:188]، وحذرنا أن نغلو فيه فقال: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو))[8]، وقال لنا: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))[9]، ولعن في آخر حياته اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال : ((ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم))[10].

هكذا أرشدنا ، هو مبعوثٌ لإقامة شرع الله، للدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، والعبادةُ لا حقَّ له ولا لغيره فيها، بل هي حقّ خالص لربنا جل وعلا، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: ((أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده))[11].

أيها المسلم، إن علامةََ محبة النبي تكون ـ كما سبق ـ باتباع سنته، والعمل بشريعته، والاقتداء به [في] القليل والكثير، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. فالمحب له هو المعظمُ لسنته، العامل بها إذا بلغته، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في كل الأحوال، يقتفي سنته، ويبحث عنها، ويسأل عنها، ويهتمُّ بها، ويقيم لها وزناً، هكذا المؤمن المحب له .

أيها المسلم، إن أصحابَه الكرام قد أظهروا من كمال محبتهم له وحرصهم على سنته ما لا يخفى، أظهروا من محبتهم له وشفقتهم عليه وحرصهم على الاقتداء به ما جعلهم خيرَ الخلق وأفضلَ الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فاسمع ـ أخي ـ إلى أنواع من محبتهم له تدلُّ على قوة الإيمان به، ومحبتهم له، رضي الله عنهم وأرضاهم.

يومَ أراد المهاجرة من مكة إلى المدينة أتى الصديق في الظهيرة، فلما قيل للصديق: هذا رسول الله، قال: بأبي وأمي، ما أتى به إلا لأمرٍ جَلَل، فلما دخل عليه قال: ((أُذِن لي بالهجرة))، فقال الصديق: الصحبةَ يا رسول الله؟ فقال: ((نعم))، قالوا: فبكى الصديق رضي الله عنه فرحاً، تقول عائشة: وما كنت أظن الفرح يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي رضي الله عنه وأرضاه[12].

ومن ذلكم أن الصديق رضي الله عنه لما فطن لخطبة خطبها النبي أنها توديعٌ لهم وإخبارٌ بقرب أجله بكى الصديق رضي الله عنه، فخطب في آخر حياته قائلاً: ((إن عبداً خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده))، فبكى الصديق رضي الله عنه، قالوا: إن المخيَّر هو رسول الله، وإن الصديق كان أعلمنا بذلك رضي الله عنه وأرضاه[13].

ولما خطب بعد موت النبي بسنة، وأراد أن يقول: إن رسول الله خطبنا في هذا اليوم من العام الأول بكى رضي الله عنه، وغلبه البكاء مراراً، ثم قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما أوتي عبد بعد الإسلام خيراً من العافية، فاسألوا الله العافية))[14].

ولما حضرت أبا بكر الوفاة، قال لهم: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين، قال: إن متُّ مساءً فلا تنتظروا بي إلى الصباح، فإن أفضلَ يوم أو ليلة عندي أن ألحق بمحمد [15]، فرضي الله عنه وأرضاه.

وهذا خليفته عمر رضي الله عنه، حينما طُعن وعلم أنه قرب أجله قال لابنه: يا بني، إن أهمَّ أمر علي أن أدفن بجوار محمد وصاحبه أبي بكر، فاذهب إلى عائشة فقل لها: يقرئك عمر السلام، ويستأذنك في أن يدفَن بجوار محمد وصاحبه، فذهب عبد الله إليها، وإذا هي تبكي على عمر حزناً عليه، فقال: يقرئك عمر السلام، ويقول: أستأذنُ منك أن أدفَن بجوار محمد وصاحبه، قالت: لقد كنتُ أعدُّه لنفسي، وإني لأوثره على نفسي، فرجع عبد الله إلى عمر، فقيل: هذا عبد الله، فقال: أسندوني، ما وراءك؟ قال: ما يسرُّك يا أمير المؤمنين، لقد أذنتْ أن تُدفَن بجوار محمد وصاحبه، قال: الحمد لله، إنه لأمرٌ كان يهمّني، ثم قال: يا عبد الله، إذا صليتُم عليَّ، فمرُّوا بجنازتي إلى عائشة، فلعلها أن تكون قالته حياءً مني، فإني أذنتْ لي وإلا فضعوني مع المسلمين، فلما صلَّوا عليه مرّوا به فقالت: ما كنت لآذن له حياً وأمنعه ميتاً[16]، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وهؤلاء أنصارُ الإسلام الأوس والخزرج، كانت محبتهم لرسول الله محبةً صادقة حقاً، فلما قسم النبي غنائم حنين، ولم يعطهم ولا المهاجرين شيئاً، وخصّ بها المؤلفةَ قلوبهم، وجد بعضهم في نفسه شيئاً، فدعا الأنصار وقال لهم: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي؟!))، فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((يا معشر الأنصار، أترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون بالنبي إلى رحالكم؟!)) قالوا: نعم، قال: ((المحيا محياكم، والممات مماتكم، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار))[17] رضي الله عنهم وأرضاهم.

ربيعة الأسلمي قدَّم للنبي وضوءَه فقال: ((يا ربيعة، سلني))، فقال: أسألك مرافقتَك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟!)) قال: هو ذاك، قال: ((يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود))[18].

صحابيٌّ آخر أتى النبي قائلاً: يا رسول الله، كلما ذكرتُك وأنا في بيتي، لا تطيب نفسي حتى أخرج وأنظر إليك، ولكن إذا ذكرتُ موتي وموتَك وعلوَّ منزلتك وأنا دون ذلك حزنتُ حزناً شديداً على ذلك، فأنزل الله: وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً [النساء:69][19].

أيها المسلمون، محبةُ المسلم لرسول الله لا تكون بغلوٍّ فيه، ولا بإطرائه، ولا برفعه عن منزلته، ولا بإحياء مولدٍ أو أمثال ذلك مما ابتدعه المبتدعون وأحدثه الضالون، وإنما تكون باتباع سنته والعمل بشريعته والطمأنينة إليها. إن صلة المسلم بنبيه صلةٌ دائمة، وصلة مستمرة، وصلة لا تنقطع، في كل أحواله، في كل حركاته وسكناته، فله صلة بنبيه ، إن صلى فإن صلته برسول الله الاقتداءُ به ليحقق قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))[20]، إن حج فصلته بنبيه: ((خذوا عني مناسككم))[21]، إن صام أو زكى فدائماً صلته بنبيه، في أكله وشربه ونومه وبكائه وضحكه وغضبه ورضاه، [في] كل أحواله هو يقتدى بمحمد ، ويتحرى الاقتداءَ به والتأسيَ به في القليل والكثير.

هكذا المسلم المحبُّ له، أما محيو هذه الليلة ليلة المولد وأمثالها، فإن [صلتَهم] صلة مبتورة، ليلة من الليالي يأتي فيها من الخرافات والبدع والضلالات ما الله به عليم، ويدَّعون أنهم بذلك معظمون لسنته، وهم بعيدون كلَّ البعد عنها.

إن أصحابَه الكرام، خلفاءَه ثم سائر أصحابه يعلمون ليلة مولده، ويعلمون ليلةَ مهاجره، ويعلمون أيامَ انتصاره، ويعلمون ليلةَ موته، ويعلمون كلَّ هذه الأمور، وما نُقل عنهم شيء من هذا، وهو أحب الناس إليهم، وهم المحبون له على الحقيقة والكمال، ومع هذا ما علمنا شيئاً أحدثوه، ولكنهم متبعون ومقتدون ومتأسون به ، فليكن المسلمون على ذلك. هذه حقيقة المحبة، حقيقة الإيمان والاتباع، السير على ما سار عليه، وعلى ما كان عليه أصحابه والتابعون وتابعوهم السائرون على المنهج القويم والطريق المستقيم، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))[22]، وفيه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))[23].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.




[1] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/177-180)، ومن طريقه أحمد (1/202، 5/291) عن أم سلمة رضي الله عنها، وصححه ابن خزيمة (2260)، وقال الهيثمي في المجمع (6/27): "رجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع".

[2] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

[3] أخرجه النخاري في كتاب الاعتصام (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور (6632) من حديث عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر... وذكر القصة.

[5] أخرجه البخاري في الإيمان (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

[6] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (15)، ومسلم في كتاب الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.

[7] أخرجه البخاري في المناقب (3688)، ومسلم في البر والصلة (2639) عن أنس رضي الله عنه بنحوه.

[8] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضًا ابن الجارود في المنتقى (473)، والضياء في المختارة (10/ 30-31)، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283)، ونقل تصحيح النووي وابن تيمية له.

[9] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[10] أخرجه أحمد في المسند (2/367)،  وأبو داود في المناسك (2042)، والطبراني في الأوسط (8/81) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في تحذير الساجد (ص 96، 97).

[11] أخرجه أحمد (1/214) بنحوه، وكذا ابن ماجه في الكفارات، باب: النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت (2117) بدون القصة، والطبراني في الكبير (12/244-6-130) واللفظ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139، 1093).

[12] أخرجه البخاري في البيوع (2138) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.

[13] أخرجه البخاري في المناقب (3904)، ومسلم في فضائل الصحابة (2382) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.

[14] أخرجه الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، وابن ماجه (3849) وغيرهم من طريق أوسط البجلي عن أبي بكر، وصححه الحاكم (1/529)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (557). وأخرجه أيضًا الترمذي في كتاب الدعوات (3558) من طريق رفاعة عن أبي بكر، وقال: "حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي بكر رضي الله عنه". ولفظه عندهم: ((بعد اليقين))، وليس ((بعد الإسلام)).

[15] أخرجه أحمد (1/8) عن عائشة قالت: إن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟... فذكرت نحو القصة، قال الهيثمي في المجمع (3/20): "فيه شيخ أحمد محمد بن ميسَّر أبو سعد، ضعفه جماعة كثيرون، وقال أحمد: صدوق".

[16] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1392) بنحوه.

[17] أخرجه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه بنحوه.

[18] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (489) عن ربيعة رضي الله عنه.

[19] عزاه ابن كثير في التفسير (2/310-311) إلى ابن مردويه في تفسيره، والحافظ أبي عبد الله المقدسي في صفة الجنة، ونقل عنه أنه قال: "لا أرى بإسناده بأسًا". وقد أخرج نحوه الطبري في تفسيره (8/534-535) مرسلاً عن سعيد بن جبير ومسروق وقتادة والسدي والربيع بن أنس، قال ابن كثير (2/310) عن مرسل الربيع: "هو من أحسنها سندًا".

[20] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

[21] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).

[22] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[23] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.

عباد الله، الأصلُ في عباداتنا أن تكون خالصةً لله، وأن تكون على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه، فكل عبادة نتعبَّدها لا أصل لها في سنة محمد فإنها عبادة باطلة؛ لكونها غيرَ موافقة لسنة محمد . وإن أصحابه الكرام أقرب الناس إليه، عاشوا معه وعرفوا هديَه، وعرفوا عبادتَه، فكل عبادة ما تعبَّدوها فلنعلم أنها عبادة على غير هدى، إذ لو كانت عبادة حقاً لكانوا أولى الناس بها، وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلأوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأنْصَـٰرِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة:100]، فهم أسوتنا وقدوتُنا، ما نقلوا لنا عن محمد فهو الحق المقبول، وما لم ينقلوه في العبادة فالأصل أن كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله نعلم أنها مبتدعة لكونها لا دليل عليها، وإنما الحق ما وافق هديه ، وكل بدعة تُنشأ وتقام فلا بد أن يقابلها تعطيل لسنة من السنن.

إن المحيين لليلة المولد قد يكون قصدُ بعضهم خيراً لكنه لم يوفَّق للصواب، والغالبُ عليها أنها تُعمَر بأذكار وقصائد ودعوات باطلة، فيها دعاء للنبي، واستغاثة به، وغلو فيه، وإشراكه بالله، فهو يكره هذا ويأباه ولا يرضاه. وأحب الناس إليه من أمته من كان متبعاً لسنته سائراً عليها بعيداً عن هذه البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ٱلدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱلله [الشورى:21]، قال بعض السلف: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)[1]، فالحق ما كان عليه أصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان، وهم المطبقون لسنته العاملون بها، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين...

 



[1] هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الدارمي عنه في مقدمة سننه (205)، وابن نصر المروزي في السنة (78)، والطبراني في الكبير (9/154)، والبيهقي في الشعب (2216)، قال الهيثمي في المجمع (1/181): "رجاله رجال الصحيح".

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً