أما بعد:
أيها المؤمنون، روى الإمام البيهقي في "شعب الإيمان" عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء)).
قلنا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مِزقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخرة عتق من النار))[1] صدق سيدي رسول الله.
أيها المؤمنون، ها هو شهر رمضان قد أقبل، ورمضان خمسة أحرف، فالراء منه نسأل الله أن تكون رحمة، والميم مغفرة، والضاد ضماناً للجنة، والألف أمانا من النار، والنون نورا من الله العزيز الغفار.
وهكذا يمر موكب الأيام وكأن لم يكن بين الرمضانين إلا عشية أو ضحاها، ها هو شهر رمضان قد أقبل، فبأي شيء نستقبل هذا الشهر الفضيل؟ إننا لو زارنا أحد قادة الدول نستقبله ونفرش له الورود، والزهور والرياحين، وقد يكون كافراً فكيف نستقبل رمضان وهو زائر كريم من رب كريم رؤوف رحيم؟ إنه ضيف عزيز من الله تبارك وتعالى. هل أعلنا كلمة القرآن عالية، هل أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر؟ هل احتشمت نساؤنا؟ هل سنترك رمضان يأتي غريباً ويعود إلى الله غريباً؟ فلا نصلح فيه أحوالنا، هل سيشهد رمضان لنا؟
عباد الله، صحيح أن رمضان يحل علينا وأحوال الأمة سيئة تتكالب عليها قوى الشر والعدوان، ولكن كما تعرفون، فشهر رمضان شهر الانتصارات الإسلامية ألم تنتصر جيوشكم في مواطن كثيرة، ألم ينتصروا في يوم بدر، ألم تقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، ألستم معي أن أعداءكم يحسبون لكم ألف حساب في شهر رمضان؟ أتعرفون لماذا أيها المؤمنون؟ لأنكم تتقربون فيه إلى الله تبارك وتعالى، تقرؤون كتابكم وقرآنكم وتعملون به، بنية صادقة، والمساجد تكون عامرة بإذن الله، لأنكم تتوبون إلى الله تبارك وتعالى، ولا ترتكبون المعاصي والآثام، لأنكم تخرجون صدقات أموالكم، وتتفقدون فقراءكم من الأرامل والأيتام وأسر الشهداء، لأنكم تصلون الصلوات في أوقاتها، وتحضرون صلاة التراويح وقيام الليل، فتزدادون إيماناً وصدقاً ويقيناً وقرباً من الله تبارك وتعالى، فقلوبكم تكون عامرة بذكر الله، مطمئنة بمحبته وطاعته. أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ [الرعد:28].
أيها المؤمنون، كيف يقضي الناس رمضان الآن؟ يقضونه بالحفلات والموسيقى والأفلام والأغاني، هل أنزل الله تبارك وتعالى القران في رمضان أم أنزل فيه الأفلام والمسرحيات؟ هل أنزل الله القران في رمضان لنجعل منه شهر ترفيه لا شهر توجيه؟! لقد ضعف الإيمان في قلوب بعض الناس.
إن كثيراً منا لم يحترموا هذا الشهر الكريم، ولم يقدروه حق قدره، كثير منا يمضى نهاره بالنوم والكسل والغفلة عن ذكر الله وتلاوة كتابه، ويذهب ليله بالسهرات والمقاهي والملاهي، والإعراض عن طاعة الله عز وجل، فهل نحن آمنون من مكر الله، هل نحن آمنون من عقوبته هل نحن مخلدون في هذه الحياة؟ إن المنايا كل يوم تختبر النفوس، والآجال كل لحظة تقربنا إلى دار الجزاء والمقام، كم ارتحل أقوام من قصورهم ولذاتهم وبهجتهم وفارقوا إلى قبور موحشة ولحود مظلمة ، ولن يجدوا إلا عملهم الصالح ولن يغني عنهم ما كانوا يجمعون، كم تناولوا من الحرام، والآثام، ووعظوا بفصيح الكلام، وكأنهم لا يسمعون.
أيها المؤمنون، لما ولى نبي الله يوسف عليه السلام خزائن مصر كان يصوم يوماً ويفطر يوم، فقيل له: يا نبي الله لم تكثر من الصيام وقد جعل الله خزائن الأرض تحت يديك، قال عليه السلام: (لأنني أخشي أن أشبع فأنسى الجائع)[2] إن الذين ينامون ملء عيونهم ويأكلون ملء بطونهم لا يدرون ماذا يحدث للأمعاء الجائعة لذلك نادى الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عليه وقال: الأكباد الجائعة أولى بالصدقات من بيت الله الحرام.
أيها المؤمنون، الذين لا يصومون لا يجوعون، الذين لا يجوعون قساة القلوب غلاظ الأكباد، الذين لا يشعرون بـالجوع لا يشعرون بآلام الجياع، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أول هذا الشهر صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً، اللهم أسمعنا فيه ما يسر نفوسنا، وثبت علينا ديننا وعقولنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم أيقظنا من سِنة الغفلة وارحم غربتنا في القبور، وآمنا يوم البعث والنشور، وارحمنا برحمتك يا أرحم الرحمين.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم واسألوه من فضله العظيم، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] ضعيف أخرجه ابن خزيمة (1887) وغيره عن سلمان رضي الله عنه.وفي إسناده علي بن زيد بن جُدعان, وقد ضعفوه.
[2] ذكره البيهقي في الشعب(5/37) والأصبهاني في الحلية(6/273)، من كلام الحسن البصري. |