.

اليوم م الموافق ‏24/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

عظم الأمانة

2706

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, خصال الإيمان

علي بن عبد الرحمن الحذيفي

المدينة المنورة

5/8/1423

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة. 2- بيان الأمانة. 3- أهمية الأمانة والتحذير من تضييعها. 4- عظم ثواب المحافظ على الأمانة. 5- مفاسد تضييع الأمانة. 6- أمانة الوظيفة والعمل. 7- أمانة الودائع.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:72، 73].

إن حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبيرا وأمرا خطيرا عُرض على الكون سمائه وأرضه وجباله، فوجلت من حمله، وأبت من القيام به، خوفاً من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه السلام، فحملها واستقلّ بها، إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً أي: الإنسان المفرّط المضيّع للأمانة هو الظلوم الجهول، لا آدم عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانة الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوها أثابهم، وإن ضيّعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله تعالى)[1]، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زُينت بالنجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الجبال فأبت"[2].

الأمانة ـ يا عباد الله ـ هي التكاليف الشرعية، هي حقوق الله وحقوق العباد، فمن أداها فله الثواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، كما قال تعالى في آخر الآية: لّيُعَذّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً، فقد روى أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدّ من ذلك الودائع)[3]، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة)[4].

فمن اتَّصف بكمال الأمانة فقد استكمل الدين، ومن فقد صفة الأمانة فقد نبذ الدين كلَّه، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا إيمان لمن لا أمانة له))[5]، وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))[6]، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسلين والمقربين، قال تعالى عن نوح وهود وصالح عليهم السلام: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ  فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:107، 108].

وكلما انتُقصت الأمانة نقصت شعب الإيمان لما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ـ أي: في وسطها ـ، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء))، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، ((فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، وحتى يقال للرجل: ما أظرفه، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان))[7]، والظاهر أن الرجل إذا تعمّد تضييع الأمانة بالتساهل في الفرائض وواجبات الدين وبالخيانة في حقوق العباد يعاقب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزّه الله تعالى أن يقبض الأمانة من قلب أحد من غير سبب من العبد، ومن غير استخفاف منه بواجبات الدين وحقوق العباد، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ [الصف:5]. وآخر الحديث يدل على أن الأمانة هي الإيمان، وهي الدين وواجباته، فالتوحيد أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمر بالمعروف أمانة، والنهي عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليد أمانة، والفرج أمانة، والبطن أمانة فلا تأكل ما لا يحل لك، والأولاد عندك أمانة فلا تضيّع تربيتهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة فلا تضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانة، وحقوق العباد المادية والمعنوية أمانة فلا تُنتقَص.

وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيام بحقوقها أعظمَ الثواب فقال تعالى: وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوٰتِهِمْ يُحَـٰفِظُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [المؤمنون:8-11]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنة))، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان)) رواه الطبراني[8]، قال المنذري: "بإسناد لا بأس به"[9].

والتفريط في الأمانات والتضييع لواجبات الدين يورث الخلل والفساد في أحوال الناس، ويجعل الحياة مرّة المذاق، ويقطّع أواصر المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذن بخراب الكون، قال وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة))[10].

فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الأمانات والواجبات، واحذروا المحرمات، قال الله تعالى: وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـٰدٰتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَـئِكَ فِى جَنَّـٰتٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:32-35].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه من الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/54) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وانظر: تفسير القرطبي (14/255)، وتفسير ابن كثير (3/523).

[2] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).

[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).

[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254).

[5] جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وفي الصغير (162) وقال: "لم يروه عن عبيد الله إلا مندل، ولا عنه إلا حسن، تفرد به الحسين بن الحكم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).

[6] أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وهو أيضا عند أبي يعلى (2863)، وصححه ابن حبان (194)، وقال الهيثمي في المجمع (1/96): "فيه أبو هلال، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3004).

[7] أخرجه مسلم في الإيمان (143)، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7086).

[8] أخرجه الطبراني في الأوسط (4925، 8599)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).

[9] قال في الترغيب والترهيب (1/300): "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به، وله شواهد كثيرة".

[10] أخرجه البخاري في العلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعزّة التي لا تُضام، أحمد ربي وأشكره على آلائه العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وأطيعوه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، تفوزوا بجنته ورضاه.

قال الله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وهذه الآية المباركة عمّت جميع الأمانات.

ومن أعظم الأمانات الوظائف والأعمال والمناصب وحقوقها، فمن أدى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدت لأجلها فقد نصح نفسه، وعمل خيراً لآخرته، ومن قصّر في واجبات وحقوق الوظائف والمناصب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافع العباد أو أخذ بها رشوة أو اختلس بها مالاً للمسلمين فقد غشّ نفسه وقدّم لها زادا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان))[1].

ومن أعظم الأمانات الودائع والحقوق التي أمنك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين)[2].

عباد الله، إن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه المصطفى وخليله المجتبى، فقال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...

 



[1] أخرجه مسلم في الجهاد (1735) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند البخاري أيضا في (6177، 6178).

[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً