أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، كان العرب يعيشون جاهلية جهلاء، في مدلهمة ظلماء، كانوا أسارى شبهات وأرباب شهوات، يعبدون الأصنام ويستقسمون بالأزلام، جهلٌ وكفر، عربدة وسكر، ظلوا على هذه الحال إلى أن بزغ نور الإسلام وسطع فجر الإيمان وتألق نجم النبوة.
ولد الهادي العظيم، فكان مولده فتحاً، ومبعثه فجراً، بدد به الله جميع الظلمات، وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وكثر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة.
يا خير من جاء الوجود تَحيَّةً من مسلمين إلى الهدى بك جاءوا
بك بشر الله السمـاء فزينـت وتضـوعت مِسْكاً بك الغبــراء
يا أيها الأمي حسـبك رتبـة في العلـم أن دانت لك العلمـاء
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت بـل أنت اليد البيضـاء
ما أعظمه وما أكمله!
هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، هو خليل الرحمن وصفوة الأنام، لا طاعة لله إلا بطاعته مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80].
لا يتم الإيمان إلا بتحقيق محبته: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) متفق عليه.
جعله الله على مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فهو أعظم الخلق أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم يداً، وأسخاهم نفساً، وأشدهم صبراً، وأعظمهم عفواً ومغفرة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: (محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظٍ ولا غليظ ولا سخّاب بالأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء).
تعظيمه حق على المسلمين؛ لأن الله رفع ذكره وأعلى مكانته: إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَـٰهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ [الفتح:8، 9].
قال ابن القيم: "وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما يجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له...".
وقال الإمام ابن تيمية: "إن قيام المِدحَةِ والثناء عليه والتعظيم والتوفير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله".
ولقد ضرب الصحابة وسلف هذه الأمة أروع الأمثلة في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه) رواه مسلم.
هكذا يكون تعيظمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا التعظيم عبادة يتقرب بها إلى الله، ولا قبول لأي عبادة حتى يتوفر فيها شرطان هما: الإخلاص والمتابعة، فالإخلاص هو ابتغاء وجه الله، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله والمتابعة هي مقتضى الشهادة بأن محمداً رسول الله ولازم من لوازمها، إذ معنى الشهادة له بأنه رسول الله حقاً: (طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع).
وهذا كمال التعظيم وغاية التوقير، محبة صادقة وثناءٌ عليه بما هو أهله وكثرةٌ لذكره والصلاة والسلام عليه والتأدب عند ذكره، وتعداد فضائله والتأسي بشمائله وتعريف الناس بذلك ليتخذوه قدوة وأسوة: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إن البرهان الحقيقي للتعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشريعة القائمة على الكتاب والسنة كما فهمها سلف هذه الأمة، إذ العبرة بالحقائق لا بالمظاهر والأشكال الجوفاء.
هل عظّمه من حلف به وهو القائل: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))؟
هل عظّمه من توسل بذاته مخالفاً بذلك هدي الصحابة رضوان الله عليهم؟
هل عظمه من استغاث به من دون الله؟
أليس ذلك كله تنكراً لمحبته وتعدياً لشرعه وعصياناً لأمره وهو القائل: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
هل من تعظيمه الابتداع في دينه والزيادة في شريعته، من التمسح بحجرته أو الاحتفال بمولده؟
أي حسن في الاحتفال ساعات وأيام ثم التقصير والإهمال سائر العام؟
وأي حسن في الاحتفال بزمن توفي فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
وأي حسن في مشابهة دين النصارى المفتونين بالاحتفالات؟
وأي حسن في عمل لم يشرعه الحبيب صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أنصاره وحماة دينه وحملة رسالته رضي الله عنهم؟
أليسوا أصدق الناس حباً له؟!
لو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص وعن التكلف أبعد.
ألا ما أقبح البدعة! أثرها على الناس سيء، ونشرها نقض لعرى الدين، ما أحيت بدعة إلا وأميتت سنة، قال الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هذا منكر وبدعة ولا يغركم كثرة فاعليه ولا انتشار مروجيه وفقنا الله وإياكم للتمسك بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ [آل عمران:31، 32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|