أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن المؤمن حقاً إذا وُكِّل إليه عمل وعُهد إليه بمسؤولية يراعي جانب الأمانة، فيتقي الله فيما وكل إليه من عمل، وفيما عُهد إليه من مسؤولية، يتقي الله في ذلك، ويعلم أنها أمانة، والله سائله عنها، فهو يؤدِّي أمانة ذلك العمل وتلك المسؤولية، يؤديها بصدق وإخلاص ومراقبة لأمر الله، متذكراً قول الله جل جلاله: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، ويتذكر قول الله في مدحِه لعباده المؤمنين وبيانه لأخلاقهم الفاضلة: وَٱلَّذِينَ هُمْ لأمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ [المؤمنون:8]، فهو يرعى الأمانة حقاً، ويؤدي حق المسؤولية، طاعةً لله، وقربةً يتقرب بها إلى الله، ويتذكر عقوبة الخائنين لأماناتهم، المضيِّعين لمسؤوليتهم: يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، ويتذكر قول النبي : ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ ذلك أو ضيعه)).
أيها المسلم، أدِّ واجبَ العمل كما أُريد منك، متقياً الله في ذلك، مراقباً الله في سرك وعلانيتك، متقرباً إلى الله بأداء واجب العمل، وتعلم أن الله سائلك عن ذلك، فتعدَّ لذلك السؤال جواباً.
أيها المسلم، إياك أن يخدعك الشيطان، ويزين لك الباطل، ويغريك بالباطل، فيحملك على الخيانة، والتقصير في الواجب، فلا تؤدي واجبك إلا إذا كان لك مصلحة خاصة تعود عليك بالنفع، وإلا ماطلت بالعمل، وأهملت وضيعت ولم تؤدِّ واجباً، ولم تقم بحق. فاعلم أن ذلك من خداع الشيطان، يريد أن يفسد عليك دينك، يريد أن يضيع أمانتك، يريدك أن تكون من الخائنين، ومن الخاسرين في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، إنك إذا أديت العمل بصدق وإخلاص ارتاح ضميرك، واطمأنت نفسك، وحمدت الله على السلامة والعافية، وبارك الله لك في عملك وعمرك ومكسبك وإن قل. وأما أن تنظر إلى أداء الواجب بمصلحةٍ لك خاصة تحوزها، فإن هذا من خداع الشيطان؛ لأن ما تطلبه على أداء الواجب من أموالٍ فإنها سحتٌ، حرام عليك، غلول تشقى بها حيا وميتاً، فهو مال حرام، لا تستفيد منه، يمحق الله به البركة، وينزل الله الفشل في رزقك، ويملأ قلبك فقراً وفاقة، فتكون فقير القلب مهما أوتيت من الدنيا.
فاتق الله في مسؤوليتك، واتق الله في أعمالك، وعامل الناس بالسواء، عاملهم من حيث أداء العمل، ولا تنظر لمن يعطيك فتقوم بواجبه، ومن لا يعطيك تضيّع أموره، وتُماطل في ذلك، وربما سعيت في إلحاق الضرر به.
لأجل هذا شدّد رسول الله في أمر الرشوة، فتوعد عليها الوعيد الشديد، وهو لعنة الله جل وعلا، وحقيقة اللعنة الطرد والإبعاد من رحمة الله، فقد ثبت عنه أنه قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وفي بعض الألفاظ: ((ولعن الرائش))، فهؤلاء ثلاثة لعنهم محمد ، دعا عليهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله؛ لأنهم أعوانٌ على الباطل، أعوان على الخيانة، أعوانٌ على تفويت مصالح الأمة، أعوانٌ لإلحاق الضرر بالفرد والجماعة معاً، أعوانٌ على كل شر، أعوانٌ على الفساد والباطل، فلعنهم جميعاً لعظيم جرمهم، وكبر خطيئتهم، وعموم فسادهم.
فلعن الراشي، لعن ذلك الإنسان، الذي يدفع الرشوة، لماذا لُعن؟ لعن لأنه أعان على باطل، فهو يرشي ويدفع الرشوة لأجل عمل يمضي له، ولأجل حق يريد أخذه، ولأجل ولأجل... لماذا بذل الرشوة؟ بذلها لأجل أن يُتغاضى عنه، لأجل أن يٌقدّم على غيره، لأجل أن لا يدقَّق عليه الأمور، لأجل ولأجل... فهو لفساد ضميره وقلة أمانته يدفع الرشوة، عساها أن تكون ستاراً على تقصيره وأخطائه، وعساها أن تكون ستاراً على إهماله وتضييعه، فهو يبذلها لأجل أن يغطي بها عيوبه وتقصيره، لكن إن كان مقابله رجل يخاف الله ويتقيه، ويعلم أن الله يقول: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]، لم يقبل تلك الرشوة منه، ولا يبالي بها، بل يعامله ويدقق عليه؛ إن كان صاحب مشروع نظر: هل أدى الواجب؟ هل قام بحقه أم لا؟ ونحو ذلك، فهو لا يرضى عنه ولا يقبل، ويخاف الله ويتقيه. هذا الراشي بذلها لأجل فساد ضميره، بذلها لخيانته وقلة أمانته.
ثم هذا المرتشي إن قبلها ورضي بها فإن الراشي سعى في إفساد ضميره، والمرتشي أيضاً قبل تلك الخيانة، ورضي بها، فإن دخولها عليه بلية ومصيبة، لماذا؟ لأنه بعد اليوم لا يمكن أن يؤدي عملاً إلا أن ينظر: ماذا سيعطى على ذلك العمل؟ حتى ولو كان أمراً واضحاً، يحب أن يُماطل بالناس، ويؤخر المواعيد يوماً أو شهراً بعد شهر، ويعلل بعلل كثيرة، ويأتي بأعذار عديدة، وتراه في لحظة واحدة متناقضاً في أحواله، هذا يماطل به ويؤخره، ويدخل عليه آخر فيقوم له وينجز معاملته في الساعة الراهنة، كل ذلك لفساد الضمير، وقلة الإيمان، والخيانة التي تخلّق بها، أثر تلك الرشوة التي دخلت عليه، فأفسدت قلبه، وقضت على الخير في نفسه، وجعلت أعماله وأداءه مرهوناً بما يُعطى وبما يأخذ، ولذا لعنه محمد .
مصلحة الأمة تقتضي أداء الأمانة، وأن يؤدي كلٌ واجبه، بنفس مطمئنة، تقاضى على هذا مرتباً، فليتق الله فيما ينفذه من أعمال.
ولعن الرائش، ذلك السمسار الواسطة بينهما، الساعي بالشر والفساد، لأنه معينٌ على الإثم والعدوان، شريكٌ لهم في ذلك الباطل.
فاتق الله ـ أخي المسلم ـ في نفسك، اتق الله في أعمالك، اتق الله في مصالح الأمة، اتق الله فيما تؤديه من واجب، وراقب الله قبل ذلك، واعلم أنما تأخذه على عملك من غير مرتبك المخصّص إنما هو سحت تأكله سحتاً، وغلول سوف تلقى الله به يوم القيامة، والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، وفي الحديث عنه : ((من استعملناه على عمل فرزقناه عليه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول))، غلول يلقى الله به يوم القيامة.
النبي مرَّ على قبر بالبقيع فقال: ((أفٍ لك)) ثلاثاً، وكان معه أحد أصحابه، فخاف أن يكون هو المقصود، فقال: يا رسول الله، أحدثت حدثاً؟ قال: ((لا، ولكن فلان يعذّب في قبره لأجل شملة غلّها من الغنيمة))، شملة غلّها وأخذها بغير حق، فإنها اشتملت عليه ناراً في قبره، فكيف الحال بمن يأخذ الملايين رشوة على إضعاف العمل، وعدم الوفاء به، وعدم القيام بالواجب؟!
فليتق المسلم ربه في القليل والكثير، وليعلم أن هذه الرشوة غلولٌ، ومال محرم، ومكسب خبيث، لا خير فيه، يفسد عليك دينك ودنياك، لا تنظر إلى هلاك من هلك، وخسارة من خسر، أنقذ نفسك من عذاب الله، واتق الله في أعمالك ومسؤوليتك، وراقب الله قبل كل شيء، لتكون من الناجين من عذاب الله، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|