أما بعد:
فيا عباد الله، ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُواْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ [المائدة: 35]، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ [فاطر: 5].
أيها المسلمون، إن وقفة التوديع مثيرة للأشجان، مهيِّجة للأحزان، إذ هي مصاحبةٌ للرحيل، مؤذنة بالانقضاء، ولقد مضى ـ يا عباد الله ـ من عمر الزمن عام كامل، تقلّبت فيه أحوال، وتصرمت فيه آجال، ونزلت فيه بالأمة النوازل التي تقض لها المضاجع، وتضطرب منها الألباب، وتجِف القلوب، وإذا كان ذهاب الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين غير مُضِي يوم ومجيء آخر، فإنه عند أولي الأبصار باعث حي من بواعث الاعتبار، ومصدر متجدِّد من مصادر العظة والادِّكار، يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيان قولُ الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك".
إنها ـ يا عباد الله ـ وقفة لمراجعة الذات، ومحاسبة النفس، بالوقوف منها موقف التاجر الأريب من تجارته، ألم تروا إليه كيف يجعل لنفسه زمنًا معلومًا، ووقتًا مضروبًا، ينظر فيه إلى مبلغ ربحه وخسارته، باحثًا عن الأسباب متأملاً في الخطأ والصواب؟!.
وإن سلوك المسلم الواعي هذا المسلك ليربو في شرف مقاصده، وسموِّ أهدافه، وكمال غاياته على ذلك؛ لأنه سعيٌ إلى الحفاظ على المكاسب الحقة التي لا تبور تجارتها، ولا يكسد سوقها، ولا تفنى أرباحها؛ لأنها الباقيات الصالحات التي جعل لها سبحانه مكانًا عليًا، ومقامًا كريمًا، وفضَّلها على ما سواها فقال سبحانه: ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف: 46].
ولذا كانت العناية بهذه المراجعة والحرص على هذه المحاسبة دأبَ أولي النهى، وديدن الأيقاظ، ونهج الراشدين، وسبيل المخبتين، لا يشغلهم عنها لهوُ الحياة ولغوها، وزخرفها وزينتها، فيقطعون أشواط الحياة بحظ موفور من التوفيق في إدراك المُنى، وبلوغ الآمال، والسلامة من العثار.
وإن ارتباط المراجعة والمحاسبة بالتغيير إلى الأفضل والأكمل وثيق العرى، فالمراجعة والمحاسبة تظهران المرء على مواطن النقص، ومواضع الخلل، ومجالب الزلل، فإذا صحَّ منه العزم، وخلصت النية، واستبان الطريق، وصدَّق ذلك كلَّه العمل، جاء عون الله بمدد لا ينفد، فأورث حسن العاقبة، وتبدلَ الحال، وبلوغ المراد.
وإن الحاجة إلى سلوك نهج المراجعة والمحاسبة ليس خاصًا ـ يا عباد الله ـ بأفراد أو بطائفة بعينها، بل إن الأمة بمجموعها بحاجة إليه أيضًا، ولا غناء لها عنه وهي تودِّع عامًا وتستقبل عامًا جديدًا، لكنها في حق الأمة مراجعة تتَّسع أبعادها، ويعم نطاقها، ويعظم نفعها؛ إذ هي نظرة شاملة للأحداث، وتأمل واع للنوازل، وتدارس دقيق للعظات والعبر التي حفل بها التاريخ القديم والحديث، وسعيٌ حثيث من بعد ذلك إلى تصحيح المسار، وإقامة العِوج، لتذليل الطريق أمام استئناف الحياة الإسلامية القويمة الراشدة المرتكزة على هدي الوحيين، المستضيئة بأنوار التنزيلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ [الحشر:18 ـ 20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
|